على هدي النبي
New member
- إنضم
- 4 يوليو 2009
- المشاركات
- 15
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 0
ملخص من كتاب المنهل العذب النمير في سيرة السراج المنير
من ص 152 الى ص227
فتح مكة
بعد مرور ثمان سنين ونصف من دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، قرر الرحيل إلى مكة ومعه عشرة آلاف من الفرسان في ليلتين خلتا من رمضان، وسمي ذلك العام بعام الفتح، ولما اقتربوا من قرية قرب مكة، دعا رسول الله بقدح من ماء وشرب منه أمام الناس، إلا أن البعض لم يشرب بل ظل على صومه، فقال النبي ( أولئك العصاة أولئك العصاة )، وظل النبي مفطرا حتى انسلخ شهر رمضان، وكان حاطب بن أبي بلتعة قد كتب كتابا إلى المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله، فأوحى الله تعالى إلى رسوله بأن الكتاب مع امرأة، ولما أتوا بذلك الكتاب، استغرب رسول الله من حاطب، فقال حاطب أنه لم يفعل ذلك كفرا ولا ارتدادا عن الدين، بل كي تحمي قريش قرابته، فصدقه النبي.
وقد علمت قريش بخبر مقدم رسول الله، فخرج أبوسفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن النبي، فرآهم ناس من حرس رسول الله فأخذوهم وأتوا بهم رسول الله، فجعل العباسُ بن عبدالمطلب أبا سفيان على الجبل حتى ينظر إلى المسلمين، وكانت الكتائب تمر عليه إلى أن جاءت كتيبة هي أقل الكتائب، وفيهم رسول الله وأصحابه، وقال النبي أن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة وتُكسى، ثم دعا رسول الله الأنصار وقال ( انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوم حصدا ) وقال ( إن موعدكم الصفا )، وصعد رسول الله الصفا وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا، وجاء العباس ومعه أبوسفيان، فقال أبوسفيان ( يا رسول الله، أبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم! )، فقال رسول الله ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن )، فأقبل ناس دار أبي سفيان، وأغلق ناس أبوابهم، ودخل رسول الله يوم الفتح من أعلى مكة وهو على ناقته يقرأ سورة الفتح، وعلى رأسه المِغفر، وعليه عمامة سوداء بغير إحرام، ولواؤه أبيض، حتى أناخ في المسجد، وأبى رسول الله دخول البيت الحرام وفيه أصنام، فأمر بإخراجها، فدخل رسول الله حتى أقبل إلى الحِجر فاستلمه ثم طاف بالبيت، وأمر النبيُ عثمان بن طلحة أن يأتي بمفتاح الكعبة، فدخل النبي ومعه أسامة وبلال وعثمان بن طلحة، فمكث فيها نهارا طويلا ثم خرج، وكان عبدالله بن عمر بن الخطاب قد استبق الناسَ فكان أولهم دخولا، ولما فرغ رسول الله من طوافه، أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت، ثم رفع يديه يدعو الله ويحمده.
ثم قام رسول الله خطيبا فأوضح لأهلها حرمتها حتى لا يقع في قلوبهم من ذلك شك ولا التباس، إذ قال ( إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة، لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحلل لي إلا ساعة من الدهر، لا يُنفَر صيدها، ولا يُختلى خلاها، ولا تحل لُقطَتها إلا لمنشد )، فقال العباس ( إلا الإذخر يا رسول الله، فإنه لا بد منه للقيْن والبيوت )، فسكت رسول الله ثم قال ( إلا الإذخر فإنه حلال ).
وقد تسابق الناس والقبائل للإسلام بعد الفتح، فهذا عمرو بن سُلمة وهو ابن ست أو سبع سنين يومئذ يقول أنه كان يقف في ممر يمر به الركبان فيسألهم ( ما للناس. ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ )، فيقولون ( يزعم أن الله أرسله وأوحى إليه )، فكان يحفظ لك الكلام، فلما كنت وقعة أهل الفتح، بادر كل قوم إلى الإسلام، وقد أسلم هو وقومه.
وقد سرقت امرأة ففزع قومها إلى أسامة يستشفعونه، فذهب أسامة إلى الرسول فقال الرسول ( أتكلمني في حد من حدود الله! )، فأمر بقطع يد تلك المرأة، ثم تابت المرأة وتزوجت، وكان الرسول قد أمّن الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وأقام في مكة تسعة عشر يوما، يقصر الصلاة فيصليها ركعتين.
الغزوات بعد الفتح
أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بعد فتح مكة لدعوة القبائل إلى الإسلام، فبعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا، فقتل منهم خالد وأسر آخرين، ثم ذات يوم أمر بقتل الأسرى، فبلغ ذلك النبي فرفع يديه فقال ( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد )، وكانت إحدى الغزوات التي حدثت بعد فتح مكة غزوة حنين، فلما كانت المعركة، كان لرسول الله عشرة آلاف أو أكثر ومعه الطلقاء، وكان العباس وأبوسفيان بن الحارث يلازمان رسول الله، وكان المشركون من هوازن وغطفان، فحمل المسلمون يومئذ على المشركين فانكشفوا، فأكب المسلمون على الغنائم، فاستقبلتهم هوازن بالسهام، إلى أن ولّ المسلمون مدبرين، كما قال الله تعالى ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ )-التوبة25، لكنه ثبت مع الرسول ثمانون من المهاجرين والأنصار، ثم دعا رسول الله وهو متجه نحو الكفار ( أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبدالمطلب، اللهم نزّل نصرك )، ثم نادى رسول الله أصحابه، وهتف عبدالله بن مسعود بالمهاجرين والأنصار، فجاؤوا إلى رسول الله ينصرونه، ومر رسول الله على امرأة مقتولة قد اجتمع الناس عليها، فقال ( ما كانت هذه تقاتل فيمن يقاتل )، ثم قال لرجل ( انطلق إلى خالد بن الوليد فقل له: إن رسول الله يأمرك ألا تقتلن ذرية ولا عسيفا )، واستمر القتال إلى أن هُزم المشركون وولوا الدبر، وكان يجاء بالأسارى رجلا رجلا فيبايعونه على الإسلام.
وقسم رسول الله غنائمهم بين المسلمين، فأعطى النبيُ الطلقاء وقسم فيها، فقالت الأنصار ( نُدعى عند الكرّة، وتُقسم الغنيمة لغيرنا! )، فبلغ ذلك النبي فقال ( أي معشر الأنصار، ما حديث بلغني عنكم؟ ) فسكتوا، فامتدحهم فقال الأنصار ( رضينا يا رسول الله رضينا )، ثم جاء وفدُ هوزان رسولَ الله وهم مسلمون، فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فخيّرهم النبي إما السبي وإما المال، فاختاروا سبيَهم، فأخبر رسول الله أصحابه بأن ( إخوانكم قد جاؤونا تائبين، وإني رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحبَ من أن يطيب ذلك فليفعل... )، فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا.
وبعد أن فرغ النبي من حنين، بعث أبا عامر الأشعري على جيش إلى أوطاس، فلقي دريدَ بن الصمة، فقُتل دريد وهزِم أصحابه، ورُمي أبوعامر في ركبته، فجاء إليه ابن أخيه أبوموسى الأشعري وسأله من رماه، فأشار إليه أبوعامر، فذهب إليه أبوموسى يلحقه وذاك الرجل يركض هاربا، إلى أن التقيا فضربه أبوموسى بالسيف فقتله، فرجع إلى عمه أبي عامر وأخبره بقتل من رماه، وقال له أبوعامر أن يطلب من الرسول الاستغفار له، فمكث يسيرا ثم مات، ولما رجع أبوموسى إلى رسول الله أخبره بذلك، فاستغفر له الرسول بعد أن توضأ، وقال أبوموسى للرسول أن يستغفر له، فاستغفر له الرسول.
غزوة الطائف
وبعد غزوة حنين، قبض رسول الله أموال المشركين ثم انطلق بها إلى الطائف، وكان ذلك في شوال في السنة الثامنة للهجرة، فحاصر النبي حصن الطائف، فلما رأى رسول الله بعد أربعين ليلة أنه لم ينل من أهل الطائف شيئا قال لأصحابه ( إن قافلون غدا )، فقال أصحابه ( نرجع ولم نفتتحه؟ )، فأمرهم بالقتال، فغدوا عليه فأصابهم جراح، فقال لهم رسول الله ( إنا قافلون غدا )، فأعجبهم ذلك فضحك رسول الله، وقد أعتق رسول الله يوم الطائف رجلين، ثم رجع من الطائف إلى الجعرانة، وجاءه أعرابي في جُبّة متمضخ بطيب فقال ( يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تمضخ بالطيب؟ )، فأمره بغسل الطيب ثلاث مرات ونزع الجبة، وأن يصنع في عمرته كما يصنع في حجه، وكان رسول الله قد أعتق سبايا الناس، فلما علم بذلك عمر، أخبر ابنه بأن يخلي سبيل جاريته التي أعطاه إياه رسول الله من الخُمس، وقد آثر رسول الله يوم حنين أناسا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مئة من الإبل، ومثله لعيينة بن حصين، وأعطى أناسا من أشراف العرب، فقال رجل ( والله إن هذه القسمة ما عُدل فيها، وما أريدَ بها وجهُ الله )، فقال النبي ( فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟... )، وبينا النبي يقسم قسما إذ قال له رجل من بني تميم ( يا رسول الله اعدل! )، فقال عمر بن الخطاب ( ائذن لي فلأضرب عنقه )، فنهاه النبي، وقسم رسول الله تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، فوجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت القالة، حتى قال قائلهم ( لقي رسول الله قومًه! )، فدخل على رسول الله سعد بن عبادة وأخبره بذلك، فأمره بجمع الأنصار وقام فيهم خاطبا إلى أن قال (... لو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار )، فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم، وقالوا ( رضينا برسول الله قسما وحظا )، ثم توجه رسول الله إلى مكة فاعتمر من الجعرانة حين قسم غنائم حنين، وكان ذلك في ذي القعدة.
غزوة تبوك
كانت غزوة تبوك ضد الروم ونصارى العرب بالشام، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلّف عليَ بن أبي طالب بالمدينة، فقال الإمام علي ( يا رسول الله، ما كنت أحب أن تخرج وجها إلا وأنا معك، أتخلفي في النساء والصبيان؟ )، فقال رسول الله ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي )، وكان رسول الله يجمع الصلاة، وصلى رسول الله بأصحابه صلاة الصبح، ثم ركبوا فلما طلعت الشمس نعسوا بسبب السير من أول الليل، وكان معاذ بن جبل يمشي مع رسول الله، والناس تفرقت بهم ركابهم على معظم الطريق تأكل وتسير، فالتفت رسول الله فإذا ليس من الجيش رجل أدنى إليه من معاذ، فناداه رسول الله وقال له ( ما كنت أحسب الناس منا كمكانهم من البعد! )، فقال معاذ ( يا نبي الله، نعس الناس فتفرقت بهم ركابهم ترتع وتسير )، ولما رأى معاذ بشرى رسول الله وخلوته سأله بعمل يدخله الجنة، فأجابه النبي ( تؤمن بالله واليوم الآخر، وتقيم الصلاة، وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئا، حتى تموت وأنت على ذلك )، كذلك أخبره برأس الأمر وهو الإسلام، وبعموده إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ودله على أبواب الخير فقال له ( الصوم جُنة، والصدقة وقيام العبد في جوف الليل يكفر الخطايا )، وقال له ( أولا أدلك على أملك ذلك لك كله؟ )، فأشار النبي إلى لسانه، قال معاذ ( يا رسول الله، وإنا لنؤاخذ بما نتكلم به؟ )، فقال رسول الله ( ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟ ).
وقد نزل رسول الله بالحِجْر، ثم بيوت ثمود، فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، ثم ارتحل بهم حتى نزل على البئر التي كانت تشرب منها ناقة صالح عليه السلام، ونهاهم أن يدخلوا على قومه الذين عُذبوا كي لا يصيبهم مثل ما أصابهم، وقد أصاب الناس مجاعة فاستأذنوا من النبي أن ينحروا نواضحهم، فأذن لهم، فجاء عمر بن الخطاب وقال ( يا رسول الله إن فعلت قل الظَهْر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك )، ففعل النبي ذلك، فحلت البركة وأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوه، فأكلوا حتى شبعوا، وذات يوم أتى رسول الله عين تبوك، فغسل فيه يديه ووجهه ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء منهمر حتى استسقى الناس.
ولما قدم رسول الله تبوك، ذهب ليقضي حاجته قبل صلاة الفجر، فذهب معه المغيرة بن شعبة، ثم توضأ، وقد مسح على الخفين، وكان قد أمر بذلك: ثلاثة أيام للمسافر ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة، ثم أقبلا إلى القوم فوجدا الناسَ قد قدموا عبدالرحمن بن عوف ليصلي لهم، فذهب المغيرة يريد تأخيره كي يؤمهم النبي فنهاه، فأدرك النبي إحدى الركعتين فصلى مع الناس الركعة الآخرة، فلما سلم عبدالرحمن قام رسول الله يتم صلاته.
وخطب رسول الله يوما يحثهم على الجهاد في سبيل الله وعلى فعل الخير وقراءة كتاب الله والعمل به، وقد أُعطي رسول الله خمسا ما كانت لأحد قبله: رسالته كانت إلى الناس عامة، نصره على العدو بالرعب، أُحلت له أكل الغنائم، جُعلت له الأرض مساجد وطهورا، والخامسة قيل له: سل فإن كل نبي قد سأل، فأخّر رسول الله مسألته إلى يوم القيامة، فهي للمسلمين.
وجَهد بالظَهْر جَهدا شديدا، فقال النبي ( مرّوا بسم الله ) ودعا لهم، فما بلغت الظَهْر المدينة حتى جعلت تنازع أصحابها أزمتها، ولما أقبل رسول الله من غزوة تبوك، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل كانوا يريدون إيذاء الرسول إلا أنهم ما استطاعوا، ولما قدم رسول الله من تبوك إلى المدينة، خرج الناس يتلقونه إلى ثنية الوداع، وسأل الناسُ النبيَ عن الساعة، فقال ( لا تأتي مئة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم )، وغزوة تبوك هي آخر غزوات النبي.
وفي هذا المجال -أي غزة تبوك- نذكر قصة كعب بن مالك أحد رجالات الأنصار الذي تخلف عن غزوة تبوك على الرغم من قدرته على المواجهة، إلا أن تقاعسه قد حال بينه وبين الجهاد مع رسول الله، وغزا رسول الله هذه الغزوة في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا، فأمر المسلمين أن يتأهبوا أهبة غزوهم، وأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله كثير، ولم يكن يجمعهم كتاب حافظ وهو الديوان، فمن كان يتغيب يظن أن أمره صعب الكشف ما لم ينزل فيه وحي من الله تعالى، ثم غزاها النبي حين طابت الثمار والظلال، وكعب يميل إلى الذهاب مع النبي، وتجهز المسلمون وذهب كي يتجهز معهم، إلا أنه رجع ولم يقض شيئا، ويقول في نفسه ( أنا قادر على ذلك إذا أردت )، فلم يزل ذلك يتمادى به حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله غاديا والمسلمون معه، ثم ذهب ورجع وظل على حاله، ثم بدأت المعركة، فهَمّ أن يرتحل ليدركهم، فلم يقدر ذلك له، فتذكر رسول الله كعبا فسأل عنه، فذكر رجل من بني سلمة كعبا بشر، وذكره معاذ بن جبل بخير، فسكت رسول الله، وعند انتهاء المعركة، بلغ كعبا أن رسول الله قادم نحو المدينة، فأصابه حزن شديد، فبدأ يفكر هل يكذب على رسول الله أم يخبره بالحقيقة، فعرف أنه لن ينجو بشيء منه أبدا، فلا داعي للكذب.
ودخل رسول الله المدينة قاصدا المسجد، فجاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، فقبل منهم رسول الله علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، وأوكل سرائرهم إلى الله، فذهب إليه كعب وجلس بين يديه، فقال رسول الله ( ما خلّفك؟ ) ألم تكن قد اشتريت راحلة!؟، فأجابه ( ... والله ما كان لي عذر... )، فقال رسول الله ( أما هذا فصدق، فقم حتى يقضي الله فيك )، وشاركه في هذا الجواب رجلان آخران، ونهى رسول الله المسلمين عن كلامنا، فلبثوا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباه فقعدا في بيوتهما يبكيان، إلا أن كعب كان يخرج ليشهد الصلاة ويطوف في الأسواق، لكن المسلمين لا يلفتون له أي نظر، حتى أنه في يوم من الأيام تسوّر جدار حائط ابن عمه، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، فقال له كعب ( أنشدك بالله، هل تعلمن أني أحب الله ورسوله؟ )، فسكت ولم يجبه، أعاد عليه ثلاثا إلى أن رد عليه ( الله ورسوله أعلم )، ففاضت عيناه وخرج، وفي اليوم الأربعين أتى كعبا رسول النبي وأخبره أن بعتزل امرأته ولا يقربها.
وفي اليوم الخمسين، وبينهما هو يصلي صلاة الصبح على ظهر بيت من بيوته، سمع صوت صارخ يقول بأعلى صوته ( يا كعب بن مالك! أبشر )، فخرّ ساجدا لأنه عرف بمجيء الفرج، فآذن رسول الله االناسَ بتوبة الله على الثلاثة حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشرونهم، فلما جاءه الذي كان يصرخ بالبشرى، نزع كعب ثوبيه وأهداهما إليه ببشارته، ولم يكن يملك وقتها غيرهما، فاستعار ثوبين فلبسهما، فانطلق قاصدا رسول الله والناس تتلقاه وتهنؤه بالتوبة، حتى دخل المسجد فقال له النبي ( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك )، وقال كعب ( يا رسول الله، إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت )، وقد اعتبر كعب بأن هذه النعمة هي أعظم نعمة مذ أن هداه الله عز وجل إلى الإسلام في أنه لم يكذب على رسول الله.
عام الوفود
بعد غزوة تبوك، قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوفود، ليؤمنوا به وينصرونه، فقدم وفد ثقيف، فأنزلهم رسول الله المسجدَ، فبايعوا رسول الله واشترطوا عليه أن لا صدقة عليهم ولا جهاد، فقال النبي ( سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا )، وكان في الوفد عثمان بن أبي العاص إذ قال للرسول ( بي وجع قد كاد يهلكني )، فأمره رسول الله بمسحه بيمينه سبع مرات ويقول ( أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد )، فأذهب الله ما كان به، وكان رسول الله قد بعثه إلى الطائف وقال له ( إذا أممت قومك فأخف بهم الصلاة، فإنه يقوم فيها الصغير والكبير والضعيف والمريض وذو الحاجة، فإذا صليت لنفسك فصل كيف شئت )، ولما استعمله رسول الله على الطائف كان الشيطان يحول بينه وبين الصلاة ويلبّس عليه قراءته، حتى ما يدري ما كان يصلي، فاشتكى إلى رسول الله، فعالجه النبي، يقول عثمان ( فلعمري ما أحسبه خالطني بعد ).
ولما توفي المنافق عبدالله بن أبي بن أبي سلول، جاء ابنه الصحابي عبدالله إلى رسول الله فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه النبي، ثم سأله أن يصلي عليه، فلما قام رسول الله ليصلي عليه، تحول عمر بن الخطاب حتى قام في صدر رسول الله فقال ( يا رسول الله، أعلى عدو الله عبدالله بن أبي! وقد قال يوما كذا وكذا وكذا! )، فتبسم رسول الله، فأخذ عمر بثوب رسول الله فقال ( يا رسول الله! أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ )، فقال رسول الله ( أخّر عني يا عمر )، وقد أكثر عمر على رسول الله، إلا أن الرسول صلى على ثم انصرف، ثم أخرجه من حفرته وألبسه قميصه، يقول عمر ( فعجبت بعْدُ من جرأتي على رسول الله والله ورسوله أعلم )، فلم يمكث رسول الله إلا يسيرا حتى نزلت (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ )-التوبة84، فما صلى رسول الله بعده على منافق، ولا قام على قبره.
وقدم وفد بني تميم وفيهم الأقرع بن حابس، فقال أبوبكر لرسول الله ( استعمله على قومه )، فقال عمر ( لا تستعمله على قومه )، فكاد الخيّران أن يهلكا، إذ ارتفعت أصواتهما في حضرة النبي، فقال أبوبكر ( ما أردتَ إلا خلافي؟ )، فقال عمر ( ما أردت خلافك! )، فأنزل الله تعالى الآيات الأولى من سورة الحجرات، وأتى رسول الله ناس من بني تميم، فقال النبي ( اقبلوا البشرى يا بني تميم )، فقالوا ( قد بشرتنا فأعطنا )، ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال النبي ( اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها بنو تميم )، قالوا ( قد قبلنا يا رسول الله، جئنا نسألك عن هذا الأمر )، فقال ( كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض ).
وأتى وفد عبدالقيس رسولَ الله وسألوه عن شي يدخلهم الجنة وعن الأشربة، فأمرهم رسول الله بأربع ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده، وهو شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وإعطاء الخمس من المغنم، ونهاهم عن الدُباء والحَنتم والمُزفّت والنقير، وكان وفد عبدالقيس لما قدموا إلى المدينة جعلوا يتبادرون من رواحلهم فيقبلوا يد النبي، وقال النبي لأشج عبدالقيس ( إن فيك خلتين يحبهما الله، الحلم والأناة )، فقال أشج ( يا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ )، فقال رسول الله ( بل الله جبلك عليهما )، فقال أشج ( الحمدلله الذي جبلني على خَلتين يحبهما الله ورسوله )، ثم قال النبي ( اللهم اغفر لعبد القيس إذ أسلموا طائعين غير كارهين ).
وكان رسول الله قد بعث خيلا قِبَل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، وكان النبي قد سأله عدة مرات ( ماذا عندك يا ثمامة؟ )، فكان يجيب بجواب غير نافع، فكان يتركه الرسول، إلى أن أطلق سراحه، فقذف الله عز وجل في قلبه، فذهبوا به إلى بئر الأنصار فغسلوه، فأسلم ثم دخل المسجد، وتشهد الشهادتين وبدأ يمتدح بالنبي والإسلام، وقال للنبي أنه يريد العمرة، فبشره رسول الله.
ثم قدم وفد مسيلمة الكذاب المدينة وجعل يقول ( إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته )، فأقبل إليه النبي وقال له ( ... ولن أتعدى أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله... ) ثم انصرف عنه النبي، وقد جاء رجلان بعثهما مسيلمة الكذاب بكتاب له إلى رسول الله، فلما قرأه رسول الله سألهما عن رأيهما بما يحويه الكتاب، فقالا ( نقول كما قال )، فقال رسول الله ( والله لولا أن الرّسل لا تقتَل لضربت أعناقكما ).
وجاء العاقب عبدالمسيح والسيد الأيهم صاحبا نجران إلى النبي يحاجان في أمر عيسى بن مريم عليه السلام، ويردان أن يلاعنا رسول الله، فقال أحدهما لصاحبه ( لا تفعل، فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا )، فقالا ( إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أمينا )، فبعث معهم أباعبيدة بن الجراح.
وكان رسول الله جالسا في المسجد مع أصحابه، إذ دخل ضمام بن ثعلبة وسأل النبي ( أسألك بربك ورب من قبلك، الله أرسلك إلى الناس كلهم؟ )، فأجابه النبي نعم، وبدأ يسأل هذا الرجل عن عبادة الله وحده والصلاة والصوم والصدقة والحج، ثم تشهد الشهادتين، وكذلك ممن أسلم على يد رسول الله عدي بن حاتم الذي دخل على رسول الله وهو في المسجد، فأخذ بيده النبي حتى أتى به داره، ورغّبه بالإسلام وأثبت له العبودية لله وحده، فأسلم عدي بن حاتم.
وقدم رجال من دوس، قالوا ( يا رسول الله، إن دوسا قد كفرت وأبت، فادع الله عليها )، فاستقبل رسول الله القبلة ورفع يديه، فظن الناس أنه يدعو عليهم، فقال نبي الرحمة ( اللهم اهد دوسا وائت بهم )، وقد وفَد وفد أهل اليمن وكندة ووفد بجلة وتحريق ذي الخصلة، وكان ممن قدم على رسول الله مبايعا جرير بن عبدالله البجلي، فدخل المسجد وفيه النبي وأصحابه، فأحدق به الناس، ثم بايع رسول الله على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والسمع والطاعة والنصح لكل مسلم.
وقد قدم تميم الداري على رسول الله ليبايعه، فأخر رسول الله العشاء الآخرة ذات ليلة، ثم خرج فقال ( إنه حبسني حديث كان يحدثنيه تميم الداري )، فنادى منادي رسول الله ( الصلاة جامعة )، فلما قضى رسول الله صلاته، جلس على المنبر وهو يضحك فقال ( ليلزم كل إنسان مصلاه، أتدرون لمَ جمعتكم؟ )، فقال ( إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا، فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن المسيح الدجال ).
وقد بعث النبي معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن، فقال ( يسّرا ولا تعسّرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا )، فقال رسول الله لمعاذ ( إنك تقدم على قوم أهل كتاب،، فإذا جئتهم فليكن أول ما تدعو إليهم ) الشهادتين، فإذا عرفوا فأخبرهم بفرض الصلوات، فإن أطاعوا فبفرض الزكاة، وبدأ الرسول ينصح معاذ، فلما فرغ رسول الله قال ( يا معاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، أو لعلك أن تمر بمسجدي هذا أو قبري )، فبكى معاذ جشعا لفراق النبي، فنهاه النبي عن البكاء لأنه من الشيطان.
وبعث رسول الله عليا إلى اليمن، فقال الإمام علي ( يا رسول الله، تبعثني إلى قوم أسن مني وأنا حديث لا أبصر القضاء؟ )، فوضع رسول الله يده على صدره وقال ( اللهم ثبت لسانه، واهد قلبه، يا علي، إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء )، قال الإمام علي ( فما اختلف علي القضاء بعد )، وقد كتب الإمام علي كتابا إلى رسول الله، فأعطاه لبريدة بن الحصيب الأسلمي إذ قال بريدة ابعثني، وكان بريدة يبغض الإمام علي بغضا لم يبغضه أحد قط، فلما ذهب إلى النبي سألهم النبي عن الإمام علي، قال بريدة ( إما شكوته أو شكاه غيري )، فإذا بالنبي قد احمر وجهه وهو يقول ( من كنت وليه فعلي وليه )، قال بريدة ( فجعلت أقرأ الكتاب وأقول صدق )، فأمسك رسول الله يدي والكتاب وقال ( أتبغض عليا؟ )، فقال نعم، فقال رسول الله ( فلا تبغضه، وإن كنت تحبه فازدد له حبا... )، قال بريدة ( فما كان من الناس أحد بعد قول رسول الله أحب إلي من علي ).
التعديل الأخير: