في بنايةٍ شامخة تُطل على شارعٍ من شوارع العاصمة التي ذاع صيتها في الفساد والإفساد.. وفي مجتمعٍ شهيقُه الفُحش وزفيرُه الخنا.. هناك التقى بها..!
ما كان يخطر بباله أنه سيجد هناك ما تقر به العينُ وينشرح له الصدر.. فكل ما حوله ينطق بما يسوء الناظرين.. وهو على كثرة تجواله في بقاع الأرض لا يذكر أن هناك بلدًا تفوق هذه البلاد في انتشار مظاهر الفساد والعُهر..
لكن الله ساقه إلى ذلك الشارع المتفرع عن الطريق الرئيس ليرى بعينه ما لم يكن يحتسب.. وليوقن أن النور ينبتُ حيث يشتد الظلام.. وأن النفوس المؤمنة الصابرة هي التي تصمدُ حينَ تهتز القلوب المترددة.. وأن الثبات وقتَ الفتن أمارةُ القلوب اللاجئة إلى ركن ربها الشديد..!
هناك وقعت عيناه على لوحةٍ تتلألأ بين ركام الباطل الزهوق.. منقوشٌ عليها بحروف كأنما هي عرائس من نور : [ مدرسة....... لتعليم القرآن الكريم..]
أتراه يحلم..؟! ..
أخذ يفرك عينيه ليستيقن من أنها تبصر ما رأى.. وأعاد قراءة المسطور على اللوحة.. فارتد إليه البصرُ هانئًا وهو سعيد..!
لم تكن قدماه بحاجة لأمر ينتقل عبر السيالات العصبية إليها لتتجه صوب مدخل البناية.. بل انطلقت من فورها تسابق البصر.. لينتشي بأريج الخير يتسلل إليه وسط العفن الذي ملأ المكان هناك..
وعند المدخل توقف قبالة لوحة إعلانات منصوبة يمين الداخل.. مكتوبٌ عليها نبذة عن المدرسة.. اسمُها.. وتاريخ إنشائها.. وعدد طلابها.. ومشاريعها القائمة.. فما زاده المكتوبُ إلا إسراعًا في الدخول..
* * * * * * *
على المكتب الصغير الأنيق جلس شابٌ من أهل تلك البلاد.. قام إليه فصافحه ورحب به.. ووجهه مستنير بأنوار الطاعة التي تنعكس عليه من وهج الإيمان، كما يعكس البدرُ ضوء الشمس..!
فدار بينهما حديثُ الروح للأرواح، يسري.. ثم سأله عن قصة هذه المدرسة.. فنهض الشاب وقال وهو يهمّ بالخروج :
** دعها تحدثك عنها..!
لم يكد يمض وقتٍ وجيز حتى عاد الشاب ومعه فتاةٌ تمشي على استحياء.. وكانت محتشمة متنقبة.. لا يُرى منها شئٌ أبدًا.. فجلست على أريكة بعيدة عنه.. والشاب يُشير إليها ويقول :
** هذه زوجتي أم عبدالعزيز.. هي صاحبة الفكرة.. وهي المشرفة على قسم الفتيات في المدرسة..! "
وانطلقت الفتاةُ تتحدث بحماسٍ عن المدرسة.. كيف بدأت الفكرة.. وما الدافع إليها.. ومتى أحست بجدواها..!
وأخذت تحكي قصة هدايتها التي أراد الله لها.. لتصبح مشرفةً على المدرسة بعد أن كانت مجرد ( رقم ) في عِداد الفتيات اللاهثات وراء مظهرٍ أجوف أو زينةٍ لا تكاد تنقضي..
إنها النفوس التي أراد الله بها خيرًا.. فكشف عنها حُجب الأهواء والتسويل.. فأضحت تبصر بعين البصيرة حقيقةَ الحياة :
عبادةٌ لله..
وصبرٌ على طاعته.. وعن معصيته..
وتواصٍ بالحق وبالصبر..
يعقبُ ذلك كلَّه سعادةُ الدنيا.. ونعيمُ الآخرة..!
كان تُحدثه بصوتٍ لا خضوع فيه ولا تكسر.. وهي تؤكد على أن الواجب على المصلحين يتعاظمُ بتعاظم الشر والفساد.. وأن الناس يستوون وقت الرخاء.. لكنهم يتمايزون عند الشدائد..
يتمايزون بإيمانهم وثباتهم.. ويتمايزون بعملهم ونشاطهم.. ويتمايزون باستعلائهم على المُحيط الذي يغرق في حمأة الارتكاس اللاهث وراء سراب سعادةٍ.. تجري خلفه الأوهام؛ فإذا ما جاءته لم تجده شيئًا.. سوى الألم والشقاء..!
لم يكن صاحبُنا يدرك كم من الوقت مضى.. فقد حلّق خياله في التفكير والتساؤل :
ألم يكن من السهل عليها - إن لم تنجرف مع المنجرفين – أن تلزم بيتَها، وتُغلق الباب دونها ودون زوجها وولدها..؟!
أَوَ لم تعذرْ نفسَها بعنفوان الشباب ونشوة الصِبا.. وتتكئ على حجج الواهمين الداحضة؛ حين يبررون كل نزوةٍ بطيش المراهقة..؟!
رحماك ياربي..!
ما أسهل أن نعذر نفوسَنا..!
وما أيسر الأمر على الضعيف الواهن المهزوم؛ أن يكيل اللوم على من حوله.. أو ( ما ) حوله.. خاصةً إن ابتُلي الهارب بمحيطٍ ( قد ) يُبرر له التساهل أو الانجراف وراء ريح الأمر الواقع..!
وسيكون الشيطان حاضرًا ليمد النفس المتهوكة بالأعذار والمبررات.. فلا أحد أمهرٌ منه في في البحث عن مداخل يلجُ منها إلى القلوب الطيبة..
وإنما هي ( خطواتٌ ) تبدأ بالتبرير والتحجج.. ولربما انتهتْ بالانتكاس والارتكاس..!
ويوم يقوم الأشهاد.. يعلم العاذرُ نفسه بأعذار الأوهام أنه هو الخاسرُ الأول.. وأن الحصن إذا انهزم حراسُه وهُدمت أسواره؛ فإن العدو سيجتاز العقبة الأخيرة بيسرٍ.. فيتمكن من أغلى ما يملك الإنسان : دينه وإيمانه..!
* * * * * * *
نسخةٌ مع التحية والدعاء :
## للقابضين على الجمر والقابضات.. ليثبتوا.. ويزداوا يقينًا بتأييد الله لمن استمسك بحبل الله..
## ولليائسين من الواقع.. ليتفاءلوا.. وليعلموا أن اليأس لا يصنع شيئًا..!
## وللأخوات المؤمنات.. ليعملن.. وليُدركن أن في أيديهن الكثير..!