بعض مما يخطط لكم
بعض مما يخطط لكم : "النيوكولونيالية" تعيد صياغة خرائط المنطقة
د. إدريس جنداري
منذ مخطط (سايكس-بيكو) وإلى حدود مخطط (الشرق الأوسط الكبير)؛ عاش العالم
العربي بمشرقه ومغربه على إيقاع التقسيم والتمزيق إلى دويلات/قبائل؛ خدمة
للمصالح الغربية؛ التي تعمل بمقولة (فرق تسد).
فبعد أن حكم العرب/المسلمون جغرافية تمتد من آسيا إلى إفريقيا وأوروبا؛ أصبحوا
الآن يعيشون في جغرافية أصبحت تضيق كل يوم أكثر؛ نتيجة المؤامرات الغربية؛
وكذلك نتيجة الضعف والتراجع العربي المتزايد؛ الذي يشجع هذه المؤامرات؛ ويوفر
لها الظروف المواتية لتحقيق النجاح.
وفي هذا الإطار تحضر إيديولوجية الانفصال؛ التي أصبحت سرطانا ينخر الجسد
العربي؛ حيث تحولت الإثنيات والمذاهب والأعراق المشكلة للعالم العربي؛ تحولت
إلى مشاريع دويلات أنابيب مشوهة الخلقة؛ تخدم الأجندة الغربية في العالم
العربي.
فكلما فكر الغرب في تمزيق دولة عربية؛ إلا وزرع فيها بذور الانفصال؛ عبر
استغلال التعدد الإثني والعرقي والمذهبي الذي يميز العالم العربي؛ وذلك عبر
تحويل هذا التعدد إلى صراعات وحروبطائفية؛ تأتي على الأخضر واليابس؛ وتكون سببا
في تمزيق الدولة الواحدة القوية إلى دويلات؛ لا يمكنها أن تحيى وتستمر إلا عبر
الدعم الغربي؛ الذي له مقابل باهظ الثمن طبعا؛ يكون على حساب السيادة الوطنية.
وإذا قمنا بإطلالة خاطفة على جغرافية العالم العربي من المشرق إلى المغرب؛
فإننا نجد جميع الأقطار العربية تقريبا مهددة بالانفصال؛ إما لاعتبارات إثنية
وعرقية؛ أولاعتبارات دينية مذهبية... وكلها اعتبارات؛ بدل أن تكون ثراء؛ تتحول
إلى قنابل موقوتة؛ تهدد ببلقنة العالم العربي؛ وتحويله إلى دويلات وقبائل
متناحرة؛ تخدم المصالح الغربية؛ طلبا للحماية.
إننا نعيش اليوم بحسرة كبيرة؛ على إيقاع التقسيم الذي يتعرض له السودان الشقيق؛
بدعم أميركي-أوربي-صهيوني؛ وفي نفس الآن خرج علينا أكراد العراق أخيرا ملوحين
بخيار الانفصال؛ أما جمهورية مصر العربية التي كنا نتباهى كعرب بوحدتها؛ فإن
فيروس الانفصال بدأ يخترق جسدها؛ من خلال الضجة الإعلامية التي أصبح يثيرها
المسيحيون الأقباط؛ مستغلين الدعم الغربي المتزايد لأطروحتهم؛ التي أصبحت تعلن
عن نفسها بشكل متزايد. أما لبنان فيشكل نموذجا للبلقنة والتقسيم؛ فهويعيش لعقود
على صفيح ساخن؛ وهومستعد في كل يوم للتحول إلى دويلات؛ تخدم المحاور الدولية
والإقليمية المتصارعة.
وفي المغرب العربي؛ أصبحنا نعيش على واقع جديد؛ من خلال التدخل الغربي لدعم
الأطروحة الانفصالية الأمازيغية في الجزائر؛ والتي تبلورت أخيرا على شكل حكومة
صورية؛ أعلن عنها في فرنسا. أما المملكة المغربية فتعاني من أطروحة الانفصال
المدعومة دوليا وإقليميا منذ 1975؛ حيث جسدت جبهة البوليساريوالانفصالية وبشكل
جيد؛ الدعوات الاستعمارية الداعمة لتقسيم المغرب؛ لإحكام السيطرة عليه؛ وعرقلة
تقدمه وازدهاره... ولعل القائمة تطول لتعم جميع أقطار العالم العربي؛ التي
أصبحت مهددة بالتقسيم؛ إلى دويلات طوائف؛ تهدد العالم العربي بالانفجار
والبلقنة على المدى القريب بله البعيد.
إننا هنا لا نتباكى على ما يجري في عالمنا العربي؛ بل لابد من محاولة فهم ما
يجري؛ لتفادي الآثار المدمرة التي يمكن أن تهدد وجودنا في أية لحظة؛ وذلك من
خلال إثارة الانتباه إلى خطورة الموقف العربي الراهن؛ خصوصا في ظل المحاور
العربية المتصارعة؛ والتي تلعب بالنار؛ حينما تستثمر في دعم التقسيم والانفصال؛
خدمة لأجندة سياسوية ضيقة؛ هي في صالح القوى الاستعمارية بالدرجة الأولى.
ولعل أهم ما يجب أن نثير إليه انتباه الشعوب والحكومات العربية؛ هوأن
إيديولوجية الانفصال؛ التي أصبح يسوقها الغرب في بلداننا باعتبارها موضة العصر؛
هذه الإيديولوجية الخطيرة تعتبر البوابة الجديدة التي تعتمدها النيوكولونيالية؛
لفرض السيطرة على العالم العربي؛ وذلك بهدف استنزاف ثرواته الطبيعية؛ التي
يعتبرها الغرب المحرك الأساسي لثورته الصناعية.
لذلك فإن الواجب يفرض علينا أن نظل على تمام الوعي بالمخططات الاستعمارية؛ التي
تسعى إلى تحويلنا إلى طوائف وإثنيات ومذاهب متصارعة؛ يغتنم كل مكون منها الفرصة
لإعلان انفصال عبثي؛ لا يخدمه كما لا يخدم وطنه الأم؛ بل على العكس من ذلك يكرس
الهيمنة الغربية؛ ويفتح المجال لسياسة الابتزاز التي يتقنها الغرب في التعامل
معنا.
مخطط الشرق الأوسط الكبير : المشاريع الانفصالية القادمة
راج الحديث بإسهاب منذ أحداث الحادي عشر من شتنبر/أيلول 2001؛ عن منطقة الشرق
الأوسط؛ التي تم التخطيط لها؛ باعتبارها امتدادا مستقبليا للمحور الأميركي –
الإسرائيلي. وتحقيقا لهذا الرهان؛ تم شن حرب مدمرة على العراق؛ باعتباره الدولة
المارقة في المنطقة؛ وتؤكد الأحداث المتوالية على المنطقة أن العراق كان ضحية
لهذه السياسة الاستعمارية الجديدة؛ ومن خلال احتلال العراق؛ تم تدشين المرحلة
الأولى من الأجندة الأميركية – الإسرائيلية؛ في منطقة الشرق الأوسط.
لقد تم الترويج منذ البداية؛ من طرف صناع القرار الأميركي – الصهيوني؛ لمفهوم
يحمل أبعاد إستراتيجية خطيرة على المنطقة؛ إنه مفهوم الشرق الأوسط الكبير؛
وهومفهوم أطلقته إدارة الرئيس الأميركي ( جورج بوش الابن) على منطقة واسعة؛ تضم
جميع دول العالم العربي؛ بالإضافة إلى تركيا؛ إسرائيل؛ إيران؛ أفغانستان؛
باكستان. وقد تم الإعلان عن هذا المشروع خلال قمة الدول الثماني في مارس 2004.
ومن خلال هذا المشروع فقد تم التأكيد من طرف صناع القرار الأميركي؛ من
المحافظين الجدد؛ على ضرورة التغيير في المنطقة؛ وذلك عبر تغيير إستراتيجية
الحفاظ على الوضع القائم؛ التي كانت معتمدة سابقاً؛ بعد أن بات هذا التغيير؛
وفق الرؤى الأميركية ضرورة ملحة لأمنها القومي ومصالحها الإستراتيجية، وبدعوى
الحرب على الإرهاب؛ تحاول الإدارة الأميركية بسط السيطرة على النظام الدولي
وقراراته.
لقد كان واضحا منذ البداية؛ أن المحافظين الجدد؛ في تحالفهم مع الصهيونية ؛
يسعون إلى تحقيق مصالحهم المشتركة؛ في السيطرة على ثروات المنطقة؛ ولن يتم ذلك
إلا عبر رسم خطط جديدة؛ تقوم على مواجهة كل أنواع المقاومة – سواء تجسدت في
جماعات أودول – وفي المقابل محاولة تدجين أنظمة وشعوب المنطقة؛ كي تستجيب
للنزوات الأميركية – الصهيونية.
2-1- رولف بيترز : الانفصال على أساس حدود الدم
وقد قام مشروع الشرق الأوسط الكبير؛ على خطة تشتيت دول المنطقة العربية إلى قطع
دومينو؛ يتلاعب بها المحافظون الجدد والصهاينة؛ لتشكيل بناء هرمي جديد؛ يستجيب
لنزعاتهم الاستعمارية. وهذا هوالسياق الذي جاء فيه مقال رالف بيترز:
"حدود الدم: ما هوشكل شرق أوسط أفضل؟ " (1)
Blood borders: How a better Middle East would look
والذي نشر بمجلة القوات المسلحة الأميركية في عدد يونيو/حزيران 2006. والسيد
بيترز ضابط متقاعد يحمل رتبة مقدم، في الاستخبارات العسكرية الأميركية؛ وضع
مخططا لإعادة تقسيم الشرق الأوسط.
في البداية ينطلق بيتزر من مقدمة أساسية؛ سيبني عليها جميع النتائج التي سيخلص
إليها في الأخير؛ وهي أن الحدود التي تفصل بين الدول في العالم ليست عادلة، لكن
الحدود الأكثر اعتباطية في العالم –في نظر بيترز- هي تلك التي تشكل الدول
الإفريقية ودول الشرق الأوسط؛ تلك الحدود التي رسمها الأوربيون لحماية مصالحهم.
ويستعير بيترز مصطلح الحدود غير العادلة من تشرشل؛ ليعبر عن الوضع القائم في
الشرق الأوسط؛ وهذا الوضع في اعتباره؛ سيحضر كسبب رئيسي في اندلاع الكثير من
المشاكل؛ بين الدول والشعوب في المنطقة.
ويتوقف بيترز عند مشكل الأقليات؛ في منطقة الشرق الأوسط وما لحقها من ظلم فادح
–في نظره- وذلك حين تم تقسيم الشرق الأوسط؛ أوائل القرن العشرين (يقصد اتفاقية
سايكس بيكو) مشيرا إلى هذه الأقليات "بأنها الجماعات أوالشعوب التي خدعت؛ حين
تم التقسيم الأول" ويذكر أهمها: الأكراد، والشيعة العرب ومسيحيي الشرق الأوسط،
والبهائيين والإسماعيليين والنقشبنديين. ويرى بيترز أن ثمة كراهية شديدة؛ بين
الجماعات الدينية والإثنية بالمنطقة تجاه بعضها البعض، وأنه لذلك يجب أن يعاد
تقسيم الشرق الأوسط؛ انطلاقا من تركيبته السكانية غير المتجانسة؛ القائمة على
الأديان والمذاهب والقوميات والأقليات، حتى يعود السلام إليه !!!
ومن خلال إثارة بيترز لمشكل الأقليات في المنطقة؛ والتي عانت في اعتباره من
التقسيم الفرنسي –البريطاني السابق؛ من خلال إثارة هذا المشكل؛ ينتقل بيترز
ليصوغ الحل المناسب لهذا المشكل؛ ويقوم هذا الحل على إعادة تقسيم منطقة الشرق
الأوسط؛ على أساس عرقي ديني (حدود الدم). وهويقدم هنا نموذجين دالين:
النموذج الأول يرتبط بإسرائيل؛ الطفل المدلل للاستعمار الأميركي الجديد؛ وهذا
المعيار في التقسيم سيكرس طابع الدولة العرقي والديني؛ كدولة لليهود (تحطيم
معيار الديمقراطية الغربية ) !!!
النموذج الثاني؛ يرتبط بالأكراد؛ الذين خصص لهم بيترز حيزا مهما من مقاله؛
وهويتأسف عن غياب دولة كردية مستقلة. فهناك ما بين 27 و36 مليون كردي يعيشون في
المناطق المجاورة في الشرق الأوسط ؛ وحتى الرقم الأدنى يجعل الأكراد؛ المجموعة
العرقية الأكبر في العالم من دون دولة خاصة بهم. لكن هل هذا كله من أجل سواد
أعين الأكراد؛ أم إن في الأمر غاية أخرى ؟ يجيب بيترز بالمباشر : " إن كردستان
حرة؛ تمتد من ديار بكر إلى تبريز؛ ستكون الدولة الأكثر دعما للغرب بين بلغاريا
واليابان " !!!
إن الحدود القائمة على العرق والدين (حدود الدم)؛ هي الحل الوحيد في نظر بيترز
للحفاظ على المصالح الأميركية في المنطقة؛ حيث يجب توسيع رقعة الدول الداعمة
للوجود الأميركي؛ حتى ولوتطلب الأمر خلق (دول أنابيب ) مشوهة؛ لا تخضع لأبسط
شروط الولادة الطبيعية.
من هذا المنظور يقدم بيترز خريطته الجديدة للشرق الأوسط ؛ كما يتصوره؛ فيتحدث
بداية؛ عن تقسيم العراق إلى ثلاثة أجزاء، دولة كردية بالشمال، ودولة شيعية
بالجنوب، ودولة سنية بالوسط؛ ستختار الانضمام إلى سوريا مع مرور الزمن.
ويصف المقدم المتقاعد السعودية بأنها دولة غير طبيعية، ويقترح أن يقتطع منها كل
من مكة والمدينة المنورة؛ حتى تنشأ فيها "دولة إسلامية مقدسة" على رأسها مجلس
يترأسه بالتناوب أحد ممثلي الحركات والمدارس الإسلامية الرئيسية، أي أن يكون
المجلس نوعا من "فاتيكان إسلامي أعلى".
كما يقترح إضافة الأرض المقتطعة من شمالي السعودية إلى الأردن، وأن تقتطع أرض
من جنوبي البلاد كي تضاف إلى اليمن، وأما شرقي البلاد فلن تسلم أيضا من المقص،
إذ تقتطع منها حقول النفط لمصلحة دولة شيعية عربية.
أما المملكة الأردنية الهاشمية فستحتفظ بأراضيها؛ وتضاف إليها أرض من شمالي
السعودية، كما سيرتبط "مستقبل الضفة الغربية بها".
أما الإمارات فيطلق السيد بيترز عليها اسم "الدولة المدينية" (تشبها بالمدن
اليونانية قديما)؛ وقد يُدمج بعضها مع الدولة العربية الشيعية التي تلتف حول
الخليج، وستصبح قوة توازن؛ مقابل دولة فارسية لا حليف لها.
أما عُمان والكويت، فتحتفظ كل منهما بأراضيها. ويفترض أن إيران، وفقا لهذا
المشروع، ستفقد الكثير من أراضيها لصالح أذربيجان الموحدة، وكردستان الحرة،
والدولة الشيعية العربية، وبلوشستان الحرة، لكنها ستكسب أراضي من أفغانستان حول
هيرات. ويطرح رالف بيترز تصوره بأن إيران سوف تصبح في النهاية بلدا إثنيا
فارسيا من جديد.
ينتهي السيد بيترز إلى أن تعديل الحدود بناء على رغبات الناس قد يكون مستحيلا،
لكنه من الممكن أن تنشأ حدود جديدة مع الزمن. فتعديل حدود الشرق الأوسط الأكبر،
بناء على روابط الدم الطبيعية والعقيدة الدينية، ضرورة ملحة لحقن الدماء!! ومن
هنا مسؤولية الولايات المتحدة وحلفائها!
ويختتم الرجل مخططه بقوله "سيستمر جنودنا، رجالا ونساء، في الحرب من أجل الأمن
والسلام ضد الإرهاب، من أجل فرصة نشر الديمقراطية، ومن أجل حرية الوصول إلى
منابع النفط بمنطقة مقدر لها أن تحارب نفسها".
وتفوح من هذا المقال الاستراتيجي منذ البداية رائحة سايكس بيكوالنتنة؛ حيث تمت
شرذمة المنطقة العربية؛ على المقاس الفرنسي البريطاني؛ أوائل القرن العشرين؛
وذلك لفسح المجال أمام إنشاء كيان غريب؛ تحت الرعاية البريطانية؛ التي جسدها
وعد بلفور.
وإذا كان مقص التقسيم في المرحلة الأولى أوربيا؛ يرتبط بمرحلة استعمارية؛ سيطرت
خلالها أوربا على قسم كبير من العالم في إفريقيا وآسيا؛ فإن نفس هذا المقص
هوالذي ما يزال يواصل وظيفته؛ لكن هذه المرة من منظور استعماري جديد؛ تشرف عليه
القوة الاستعمارية الأميركية. والهدف الواضح – طبعا – يؤكده السيد بيترز بوضوح
تام:
(الوصول إلى منابع النفط)
ولعل المطلع على هذا المقال الخطير؛ ليفهم بوضوح الإستراتيجية الأميركية؛ في
مشروع الشرق الأوسط الكبير؛ والتي تقوم على تامين مصادر النفط؛ وأي تشويش على
هذا الهدف؛ فهومبرر كاف لقلب جميع التوازنات القائمة في المنطقة. وقد أدى
العراق الثمن باهظا؛ حينما حاول التشويش على هذا الهدف؛ حيث تم تدميره على جميع
المستويات؛ ومن ثمة تحقق الانتقال به؛ من دولة قوية قادرة على عرقلة الخطط
الأميركية في منطقة الشرق الأوسط؛ إلى دولة تقوم نيابة عن المحافظين الجدد؛
بدعم هذه الخطط؛ وفسح المجال لتطبيقها بنسبة عالية من النجاح.
2-2 - هنري كيسنجر : إعادة صياغة خرائط المنطقة العربية
إن هذه الرؤية الإستراتيجية؛ التي يصوغها السيد رالف بيترز –في الحقيقة – ترتبط
براءة اختراعها؛ بوزير الخارجية الأميركي؛ ورئيس مجلس الأمن القومي الأميركي
السابق ( هنري كيسنجر )؛ الذي وضع مخططا مماثلا لتمزيق الوطن العربي.
وسواء مع رالف بيترز أومع هنري كيسنجر؛ تحضر إستراتيجية واحدة؛ تقوم على
السيطرة على مصادر النفط في المنطقة العربية؛ ولن يتم ذلك إلا عبر اللعب في
خرائط المنطقة؛ وإعادة صياغتها على المقاس الأميركي في كل مرة.
يقوم التصور الخرائطي لمنطقة الشرق الأوسط؛ كما صاغه هنري كيسنجر – كما هي عادة
جميع المخططات الأميركية – على اعتبار أن الدول المشكلة للعالم العربي؛ قطع
دومينو؛ يمكن التلاعب بها حسب المصالح الأميركية-الصهيونية ؛ وكأنها دول
فقاقيع؛ لا تمتد جذورها في الأرض التي تنتمي إليها - وهذا مكمن الداء الأميركي
- !!!
من هذا المنظور يعتبر السيد كيسنجر؛ أن العالم العربي؛ يتشكل من أربع وحدات
جغرافية متمايزة:
منطقة الهلال الخصيب ( سوريا؛ العراق؛ لبنان؛ الأردن؛ فلسطين)
منطقة الخليج العربي ( الإمارات؛ الكويت؛ السعودية؛ البحرين؛ سلطنة عمان)
منطقة المغرب العربي ( المغرب؛ الجزائر؛ تونس)
منطقة شمال إفريقيا ( مصر؛ ليبيا؛ السودان )
وتتميز أوضاع هذه المناطق بالاضطراب؛ وبضعف المؤسسات السياسية؛ وبافتقار
قياداتها إلى الرؤيا؛ وبفساد أجهزتها الإدارية؛ وبضعف بنيتها الداخلية.
ويعرض كيسنجر لأوضاع بعض دول المنطقة العربية؛ على الشكل التالي:
سورية: بلد ذوبنية متطرفة؛ لا يمكن ضبطه إلا بحكم عسكري.
لبنان: بلد هش التركيب؛ قابل للتعدد والانقسام.
العراق: بلد ذوثلاثة أجنحة؛ يعيقه الجناح الثالث عن الانطلاق.
الكويت: مدينة لا تستطيع أن تستمر وتعيش دون حماية خارجية.
السعودية: دولة ذات أجساد متعددة ولها رأس واحد.
مصر: دولة مستعرة الفقر والمشكلات.
الجزائر: دولة تنفق من رصيد ثورتها القابل والمشرف على النفاذ. (2)
واعتمادا على هذا التشريح الذي قام به السيد كيسنجر للمنطقة العربية؛ فإنه
يفتتح لإستراتيجية جديدة؛ لقلب الأوراق؛ وإعادة تشكيلها على مقاس المصالح
الأميركية-الصهيونية. وكيسنجر هنا لا ينظر للفراغ؛ بل يضع خططا؛ يمكنها أن
تستمر؛ حتى بعد مغادرته لمنصب صنع القرار في الإدارة الأميركية.
ولعل هذا هوما تم بالضبط؛ حيث أن الإدارة الأميركية؛ منذ كيسنجر وحتى الآن؛
تحسب أن الشرق الوسط يضم بلدانا يمكن الاستغناء عنها؛ ثمة دول فائضة فيها؛
وحدود دولها غير ثابته – كما ردد ذلك رالف بيترز– فهي تتحرك بتحرك الجماعات
العرقية والدينية؛ التي تقوم عليها فرضية الدويلات؛ التي من شانها تجزئة الدول
العربية؛ وتفتيت وحداتها الوطنية.
إن هذا المخطط الكيسنجري هوالذي وجه خطط الإدارة الأميركية؛ في شراكتها مع
الكيان الصهيوني بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر/أيلول. ويمكن التوقف عند
مشروعين؛ جسدا هذه الخطط؛ بنسبة كبيرة من النجاح :
المشروع الأول يدخل في إطار خطة إستراتيجية؛ وضعها وولفوفيتس وديك تشيني؛ تهدف
إلى إعادة رسم خارطتي الشرق الأوسط وأوربا الوسطى؛ وتستند إلى اقتراحات أرييل
شارون وشاوول موفاز ؛ وملخصها هوالآتي:
تقسيم العربية السعودية؛ بما يسمح بإقامة دولة أومحمية خاضعة مباشرة؛ لسيطرة
شركات النفط الكبرى؛ وعلى رأسها أرامكو؛ وإقامة دولة تفتقر إلى النفط؛ وإلحاق
بعض المناطق باليمن وبالعراق الجديد
بعد إطاحة الرئيس صدام حسين يتم ما يلي:
ـ طرد الفلسطينيين من غرب فلسطين
ـ جعل إسرائيل دولة يهودية (صافية العرق)
ـ توطين الفلسطينيين في مناطق عراقية؛ بمن فيهم الفلسطينيون الموجودون في سوريا
ولبنان.
ـ إطاحة النظام السوري؛ وتأسيس دولة سورية مؤيدة للولايات المتحدة.
أما المشروع الثاني؛ فقد وضعته إدارة بوش-تشيني؛ وهدفه خلق (شريفية جديدة)؛
فالسلالة الهاشمية التي كانت تحكم السعودية والكويت واليمن مرشحة لتكوين شريفية
جديدة. أي مملكة أردنية؛ تمتد من نهر الأردن إلى الحدود الإيرانية؛ وتضم العراق
(مملكة هاشمية - فلسطينية - عراقية)؛ وينقل الفلسطينيون إليها من غزة. أما
الضفة الغربية؛ فتخضع لحكم مشترك من الشريفية الجديدة؛ ومن حكومة إسرائيل؛
ولاحقا تلتحق بالمملكة الشريفية؛ كجزء من الاتحاد الكونفدرالي المؤلف؛ من
العراق والأردن وما تبقى من فلسطين. (3)
سواء مع (هنري كسنجر) أومع (رالف بيترز)؛ ومن خلالهما صناع القرار الأميركي-
الصهيوني؛ حضرت خطة إعادة تقسيم منطقة الشرق الأوسط؛ وإعادة صياغة خرائطها.
وهذه الخطة جزء من استراتيجية شاملة؛ تقوم على ربط المنطقة بالمصالح الأميركية؛
وما ارتبط منها بموضوع الطاقة على وجه التحديد.
وفي إطار إعادة صياغة خرائط المنطقة؛ تم توطين الكيان الصهيوني؛ باعتباره شرطي
مرور؛ ينظم حركة السير على إيقاع اتجاه واحد؛ هوالاتجاه الأميركي. ومن هذا
المنظور فإن الاستراتيجية الأميركية- الصهيونية؛ تنحوفي اتجاه صناعة خارطة؛
تتشكل من دول (دمى) تحركها حسب مصالحها.
وفي هذا السياق بالذات؛ يحضر مشكل الأقليات في المنطقة؛ والتي اعتبرت في جميع
خطط التقسيم؛ المدخل الرئيسي لإنجاح أية خطة. فقد تم اللعب طوال مراحل الصراع؛
على هذا الوتر الحساس في المنطقة؛ وتم استغلال الأقليات؛ كورقة ضغط رابحة؛ تمكن
صناع القرار الأميركي – الصهيوني؛ من ربح رهان إعادة الهيكلة على مقاسهم الخاص.
وضمن هذا التصور حضر الموضوع الكردي؛ في منطقة المشرق العربي كحصان طروادة؛
يركب في كل مرة ويطلق له العنان بلا قيود؛ وفي نفس السياق يحضر موضوع الأمازيغ
وموضوع الصحراء الغربية في منطقة المغرب العربي؛ والذي يستغل من طرف القوى
الاستعمارية الكبرى لكبح جماح أي تطور يمكن أن يهدد مصالحها.
وهكذا تمتلك السياسة الأميركية – الصهيونية أوراق رابحة مدعومة من الداخل؛ وهي
بذلك تهدد الكثير من دول المنطقة العربية بالبلقنة؛ وذلك من منطلقات عرقية؛ لم
يعد يقبلها الحس الديمقراطي الغربي؛ الذي يدعمها؛ والذي حسم مع هذا الطرح؛ منذ
تشكل دولة المؤسسات؛ التي تضم عرقيات وأديان ومذاهب مختلفة ضمن إطار واحد؛
يحتكم فيه لحقوق وواجبات المواطنة؛ بغض النظر عن الانتماء العرقي أوالديني
أوالمذهبي. والكثير من الدول التي تشجع هذا الطرح العرقي؛ تمور داخليا بأعراق
وأديان ومذاهب مختلفة؛ اندمجت ضمن التصور الديمقراطي والمؤسساتي للدولة
الحديثة.
لكن الأمر مختلف تماما في تصور الشرق الأوسط الكبير؛ الذي يراد له أن يحتكم إلى
حدود الدم ( Blood borders) حيث يحضر مشكل الأقليات خارج أي حس ديمقراطي
ومؤسساتي؛ وتعلن الدعوة بالصريح والمباشر إلى تشكيل كيانات على أساس العرق
والدين؛ في تناقض صارخ مع جميع القيم السياسية؛ التي تقوم عليها الديمقراطية
الغربية؛ التي يتم التبشير بها كخيار استراتيجي في المنطقة.
وهذا يؤكد بالملموس والمباشر؛ أن الهدف الرئيسي؛ الذي يتمحور حوله الصراع؛
يرتبط بالهيمنة والسيطرة ؛ من منظور استعماري قديم؛ يقوم على استغلال الشعوب
والدول في بناء القوة المهيمنة الواحدة. وهذا ما كنا نظن أن قيم العصر الحديث
قد قطعت معه؛ لكن المكبوت يعود في كل مرة ويهدد ببروز حركات استعمارية جديدة؛
على شاكلة ما عرفته مرحلة القرن التاسع عشر.
ولذلك يحق لنا أن نتساءل: ما هوالفارق بين مخطط سايكس-بيكوومخطط الشرق الأوسط
الكبير ؟
إن البعد الاستعماري حاضر بقوة في كلا المخططين؛ من منطلق إعادة صياغة خرائط
منطقة الشرق الأوسط؛ بهدف المحافظة على مصالح الدول الاستعمارية؛ وجميع الوسائل
التي يمكن أن تحقق هذه الغاية مباحة ومشروعة؛ حتى ولوكانت تتناقض مع التصور
السياسي؛ الذي أقامه الغرب على أساس الديمقراطية والمواطنة ودولة المؤسسات.
ولذلك فإن هذا الحس الاستعماري؛ يدفع الكثير من الدول التي تدعي حماية ودعم
المؤسسات الدولية؛ يدفعها إلى استغلال هذه المؤسسات؛ بما تجسده من قيم كونية؛
في تبرير قيم الحرب والاستعمار؛ كما يدفعها إلى الدفاع عن نماذج سياسية قديمة
–تحاربها داخليا- تقوم على أساس العرق والدين.
الهوامش:
Ralf Peters – Blood borders: how a better middle east would look – AFJ
(Armed Forces Journal.
ساسين عساف – الوحدة العربية في مواجهة المشروع الصهيوني – مجلة المستقبل
العربي- فبراير/شباط 2010 – ع: 372- ص: 19
نفس المرجع – ص: 20-21.
بعض مما يخطط لكم : "النيوكولونيالية" تعيد صياغة خرائط المنطقة
د. إدريس جنداري
منذ مخطط (سايكس-بيكو) وإلى حدود مخطط (الشرق الأوسط الكبير)؛ عاش العالم
العربي بمشرقه ومغربه على إيقاع التقسيم والتمزيق إلى دويلات/قبائل؛ خدمة
للمصالح الغربية؛ التي تعمل بمقولة (فرق تسد).
فبعد أن حكم العرب/المسلمون جغرافية تمتد من آسيا إلى إفريقيا وأوروبا؛ أصبحوا
الآن يعيشون في جغرافية أصبحت تضيق كل يوم أكثر؛ نتيجة المؤامرات الغربية؛
وكذلك نتيجة الضعف والتراجع العربي المتزايد؛ الذي يشجع هذه المؤامرات؛ ويوفر
لها الظروف المواتية لتحقيق النجاح.
وفي هذا الإطار تحضر إيديولوجية الانفصال؛ التي أصبحت سرطانا ينخر الجسد
العربي؛ حيث تحولت الإثنيات والمذاهب والأعراق المشكلة للعالم العربي؛ تحولت
إلى مشاريع دويلات أنابيب مشوهة الخلقة؛ تخدم الأجندة الغربية في العالم
العربي.
فكلما فكر الغرب في تمزيق دولة عربية؛ إلا وزرع فيها بذور الانفصال؛ عبر
استغلال التعدد الإثني والعرقي والمذهبي الذي يميز العالم العربي؛ وذلك عبر
تحويل هذا التعدد إلى صراعات وحروبطائفية؛ تأتي على الأخضر واليابس؛ وتكون سببا
في تمزيق الدولة الواحدة القوية إلى دويلات؛ لا يمكنها أن تحيى وتستمر إلا عبر
الدعم الغربي؛ الذي له مقابل باهظ الثمن طبعا؛ يكون على حساب السيادة الوطنية.
وإذا قمنا بإطلالة خاطفة على جغرافية العالم العربي من المشرق إلى المغرب؛
فإننا نجد جميع الأقطار العربية تقريبا مهددة بالانفصال؛ إما لاعتبارات إثنية
وعرقية؛ أولاعتبارات دينية مذهبية... وكلها اعتبارات؛ بدل أن تكون ثراء؛ تتحول
إلى قنابل موقوتة؛ تهدد ببلقنة العالم العربي؛ وتحويله إلى دويلات وقبائل
متناحرة؛ تخدم المصالح الغربية؛ طلبا للحماية.
إننا نعيش اليوم بحسرة كبيرة؛ على إيقاع التقسيم الذي يتعرض له السودان الشقيق؛
بدعم أميركي-أوربي-صهيوني؛ وفي نفس الآن خرج علينا أكراد العراق أخيرا ملوحين
بخيار الانفصال؛ أما جمهورية مصر العربية التي كنا نتباهى كعرب بوحدتها؛ فإن
فيروس الانفصال بدأ يخترق جسدها؛ من خلال الضجة الإعلامية التي أصبح يثيرها
المسيحيون الأقباط؛ مستغلين الدعم الغربي المتزايد لأطروحتهم؛ التي أصبحت تعلن
عن نفسها بشكل متزايد. أما لبنان فيشكل نموذجا للبلقنة والتقسيم؛ فهويعيش لعقود
على صفيح ساخن؛ وهومستعد في كل يوم للتحول إلى دويلات؛ تخدم المحاور الدولية
والإقليمية المتصارعة.
وفي المغرب العربي؛ أصبحنا نعيش على واقع جديد؛ من خلال التدخل الغربي لدعم
الأطروحة الانفصالية الأمازيغية في الجزائر؛ والتي تبلورت أخيرا على شكل حكومة
صورية؛ أعلن عنها في فرنسا. أما المملكة المغربية فتعاني من أطروحة الانفصال
المدعومة دوليا وإقليميا منذ 1975؛ حيث جسدت جبهة البوليساريوالانفصالية وبشكل
جيد؛ الدعوات الاستعمارية الداعمة لتقسيم المغرب؛ لإحكام السيطرة عليه؛ وعرقلة
تقدمه وازدهاره... ولعل القائمة تطول لتعم جميع أقطار العالم العربي؛ التي
أصبحت مهددة بالتقسيم؛ إلى دويلات طوائف؛ تهدد العالم العربي بالانفجار
والبلقنة على المدى القريب بله البعيد.
إننا هنا لا نتباكى على ما يجري في عالمنا العربي؛ بل لابد من محاولة فهم ما
يجري؛ لتفادي الآثار المدمرة التي يمكن أن تهدد وجودنا في أية لحظة؛ وذلك من
خلال إثارة الانتباه إلى خطورة الموقف العربي الراهن؛ خصوصا في ظل المحاور
العربية المتصارعة؛ والتي تلعب بالنار؛ حينما تستثمر في دعم التقسيم والانفصال؛
خدمة لأجندة سياسوية ضيقة؛ هي في صالح القوى الاستعمارية بالدرجة الأولى.
ولعل أهم ما يجب أن نثير إليه انتباه الشعوب والحكومات العربية؛ هوأن
إيديولوجية الانفصال؛ التي أصبح يسوقها الغرب في بلداننا باعتبارها موضة العصر؛
هذه الإيديولوجية الخطيرة تعتبر البوابة الجديدة التي تعتمدها النيوكولونيالية؛
لفرض السيطرة على العالم العربي؛ وذلك بهدف استنزاف ثرواته الطبيعية؛ التي
يعتبرها الغرب المحرك الأساسي لثورته الصناعية.
لذلك فإن الواجب يفرض علينا أن نظل على تمام الوعي بالمخططات الاستعمارية؛ التي
تسعى إلى تحويلنا إلى طوائف وإثنيات ومذاهب متصارعة؛ يغتنم كل مكون منها الفرصة
لإعلان انفصال عبثي؛ لا يخدمه كما لا يخدم وطنه الأم؛ بل على العكس من ذلك يكرس
الهيمنة الغربية؛ ويفتح المجال لسياسة الابتزاز التي يتقنها الغرب في التعامل
معنا.
مخطط الشرق الأوسط الكبير : المشاريع الانفصالية القادمة
راج الحديث بإسهاب منذ أحداث الحادي عشر من شتنبر/أيلول 2001؛ عن منطقة الشرق
الأوسط؛ التي تم التخطيط لها؛ باعتبارها امتدادا مستقبليا للمحور الأميركي –
الإسرائيلي. وتحقيقا لهذا الرهان؛ تم شن حرب مدمرة على العراق؛ باعتباره الدولة
المارقة في المنطقة؛ وتؤكد الأحداث المتوالية على المنطقة أن العراق كان ضحية
لهذه السياسة الاستعمارية الجديدة؛ ومن خلال احتلال العراق؛ تم تدشين المرحلة
الأولى من الأجندة الأميركية – الإسرائيلية؛ في منطقة الشرق الأوسط.
لقد تم الترويج منذ البداية؛ من طرف صناع القرار الأميركي – الصهيوني؛ لمفهوم
يحمل أبعاد إستراتيجية خطيرة على المنطقة؛ إنه مفهوم الشرق الأوسط الكبير؛
وهومفهوم أطلقته إدارة الرئيس الأميركي ( جورج بوش الابن) على منطقة واسعة؛ تضم
جميع دول العالم العربي؛ بالإضافة إلى تركيا؛ إسرائيل؛ إيران؛ أفغانستان؛
باكستان. وقد تم الإعلان عن هذا المشروع خلال قمة الدول الثماني في مارس 2004.
ومن خلال هذا المشروع فقد تم التأكيد من طرف صناع القرار الأميركي؛ من
المحافظين الجدد؛ على ضرورة التغيير في المنطقة؛ وذلك عبر تغيير إستراتيجية
الحفاظ على الوضع القائم؛ التي كانت معتمدة سابقاً؛ بعد أن بات هذا التغيير؛
وفق الرؤى الأميركية ضرورة ملحة لأمنها القومي ومصالحها الإستراتيجية، وبدعوى
الحرب على الإرهاب؛ تحاول الإدارة الأميركية بسط السيطرة على النظام الدولي
وقراراته.
لقد كان واضحا منذ البداية؛ أن المحافظين الجدد؛ في تحالفهم مع الصهيونية ؛
يسعون إلى تحقيق مصالحهم المشتركة؛ في السيطرة على ثروات المنطقة؛ ولن يتم ذلك
إلا عبر رسم خطط جديدة؛ تقوم على مواجهة كل أنواع المقاومة – سواء تجسدت في
جماعات أودول – وفي المقابل محاولة تدجين أنظمة وشعوب المنطقة؛ كي تستجيب
للنزوات الأميركية – الصهيونية.
2-1- رولف بيترز : الانفصال على أساس حدود الدم
وقد قام مشروع الشرق الأوسط الكبير؛ على خطة تشتيت دول المنطقة العربية إلى قطع
دومينو؛ يتلاعب بها المحافظون الجدد والصهاينة؛ لتشكيل بناء هرمي جديد؛ يستجيب
لنزعاتهم الاستعمارية. وهذا هوالسياق الذي جاء فيه مقال رالف بيترز:
"حدود الدم: ما هوشكل شرق أوسط أفضل؟ " (1)
Blood borders: How a better Middle East would look
والذي نشر بمجلة القوات المسلحة الأميركية في عدد يونيو/حزيران 2006. والسيد
بيترز ضابط متقاعد يحمل رتبة مقدم، في الاستخبارات العسكرية الأميركية؛ وضع
مخططا لإعادة تقسيم الشرق الأوسط.
في البداية ينطلق بيتزر من مقدمة أساسية؛ سيبني عليها جميع النتائج التي سيخلص
إليها في الأخير؛ وهي أن الحدود التي تفصل بين الدول في العالم ليست عادلة، لكن
الحدود الأكثر اعتباطية في العالم –في نظر بيترز- هي تلك التي تشكل الدول
الإفريقية ودول الشرق الأوسط؛ تلك الحدود التي رسمها الأوربيون لحماية مصالحهم.
ويستعير بيترز مصطلح الحدود غير العادلة من تشرشل؛ ليعبر عن الوضع القائم في
الشرق الأوسط؛ وهذا الوضع في اعتباره؛ سيحضر كسبب رئيسي في اندلاع الكثير من
المشاكل؛ بين الدول والشعوب في المنطقة.
ويتوقف بيترز عند مشكل الأقليات؛ في منطقة الشرق الأوسط وما لحقها من ظلم فادح
–في نظره- وذلك حين تم تقسيم الشرق الأوسط؛ أوائل القرن العشرين (يقصد اتفاقية
سايكس بيكو) مشيرا إلى هذه الأقليات "بأنها الجماعات أوالشعوب التي خدعت؛ حين
تم التقسيم الأول" ويذكر أهمها: الأكراد، والشيعة العرب ومسيحيي الشرق الأوسط،
والبهائيين والإسماعيليين والنقشبنديين. ويرى بيترز أن ثمة كراهية شديدة؛ بين
الجماعات الدينية والإثنية بالمنطقة تجاه بعضها البعض، وأنه لذلك يجب أن يعاد
تقسيم الشرق الأوسط؛ انطلاقا من تركيبته السكانية غير المتجانسة؛ القائمة على
الأديان والمذاهب والقوميات والأقليات، حتى يعود السلام إليه !!!
ومن خلال إثارة بيترز لمشكل الأقليات في المنطقة؛ والتي عانت في اعتباره من
التقسيم الفرنسي –البريطاني السابق؛ من خلال إثارة هذا المشكل؛ ينتقل بيترز
ليصوغ الحل المناسب لهذا المشكل؛ ويقوم هذا الحل على إعادة تقسيم منطقة الشرق
الأوسط؛ على أساس عرقي ديني (حدود الدم). وهويقدم هنا نموذجين دالين:
النموذج الأول يرتبط بإسرائيل؛ الطفل المدلل للاستعمار الأميركي الجديد؛ وهذا
المعيار في التقسيم سيكرس طابع الدولة العرقي والديني؛ كدولة لليهود (تحطيم
معيار الديمقراطية الغربية ) !!!
النموذج الثاني؛ يرتبط بالأكراد؛ الذين خصص لهم بيترز حيزا مهما من مقاله؛
وهويتأسف عن غياب دولة كردية مستقلة. فهناك ما بين 27 و36 مليون كردي يعيشون في
المناطق المجاورة في الشرق الأوسط ؛ وحتى الرقم الأدنى يجعل الأكراد؛ المجموعة
العرقية الأكبر في العالم من دون دولة خاصة بهم. لكن هل هذا كله من أجل سواد
أعين الأكراد؛ أم إن في الأمر غاية أخرى ؟ يجيب بيترز بالمباشر : " إن كردستان
حرة؛ تمتد من ديار بكر إلى تبريز؛ ستكون الدولة الأكثر دعما للغرب بين بلغاريا
واليابان " !!!
إن الحدود القائمة على العرق والدين (حدود الدم)؛ هي الحل الوحيد في نظر بيترز
للحفاظ على المصالح الأميركية في المنطقة؛ حيث يجب توسيع رقعة الدول الداعمة
للوجود الأميركي؛ حتى ولوتطلب الأمر خلق (دول أنابيب ) مشوهة؛ لا تخضع لأبسط
شروط الولادة الطبيعية.
من هذا المنظور يقدم بيترز خريطته الجديدة للشرق الأوسط ؛ كما يتصوره؛ فيتحدث
بداية؛ عن تقسيم العراق إلى ثلاثة أجزاء، دولة كردية بالشمال، ودولة شيعية
بالجنوب، ودولة سنية بالوسط؛ ستختار الانضمام إلى سوريا مع مرور الزمن.
ويصف المقدم المتقاعد السعودية بأنها دولة غير طبيعية، ويقترح أن يقتطع منها كل
من مكة والمدينة المنورة؛ حتى تنشأ فيها "دولة إسلامية مقدسة" على رأسها مجلس
يترأسه بالتناوب أحد ممثلي الحركات والمدارس الإسلامية الرئيسية، أي أن يكون
المجلس نوعا من "فاتيكان إسلامي أعلى".
كما يقترح إضافة الأرض المقتطعة من شمالي السعودية إلى الأردن، وأن تقتطع أرض
من جنوبي البلاد كي تضاف إلى اليمن، وأما شرقي البلاد فلن تسلم أيضا من المقص،
إذ تقتطع منها حقول النفط لمصلحة دولة شيعية عربية.
أما المملكة الأردنية الهاشمية فستحتفظ بأراضيها؛ وتضاف إليها أرض من شمالي
السعودية، كما سيرتبط "مستقبل الضفة الغربية بها".
أما الإمارات فيطلق السيد بيترز عليها اسم "الدولة المدينية" (تشبها بالمدن
اليونانية قديما)؛ وقد يُدمج بعضها مع الدولة العربية الشيعية التي تلتف حول
الخليج، وستصبح قوة توازن؛ مقابل دولة فارسية لا حليف لها.
أما عُمان والكويت، فتحتفظ كل منهما بأراضيها. ويفترض أن إيران، وفقا لهذا
المشروع، ستفقد الكثير من أراضيها لصالح أذربيجان الموحدة، وكردستان الحرة،
والدولة الشيعية العربية، وبلوشستان الحرة، لكنها ستكسب أراضي من أفغانستان حول
هيرات. ويطرح رالف بيترز تصوره بأن إيران سوف تصبح في النهاية بلدا إثنيا
فارسيا من جديد.
ينتهي السيد بيترز إلى أن تعديل الحدود بناء على رغبات الناس قد يكون مستحيلا،
لكنه من الممكن أن تنشأ حدود جديدة مع الزمن. فتعديل حدود الشرق الأوسط الأكبر،
بناء على روابط الدم الطبيعية والعقيدة الدينية، ضرورة ملحة لحقن الدماء!! ومن
هنا مسؤولية الولايات المتحدة وحلفائها!
ويختتم الرجل مخططه بقوله "سيستمر جنودنا، رجالا ونساء، في الحرب من أجل الأمن
والسلام ضد الإرهاب، من أجل فرصة نشر الديمقراطية، ومن أجل حرية الوصول إلى
منابع النفط بمنطقة مقدر لها أن تحارب نفسها".
وتفوح من هذا المقال الاستراتيجي منذ البداية رائحة سايكس بيكوالنتنة؛ حيث تمت
شرذمة المنطقة العربية؛ على المقاس الفرنسي البريطاني؛ أوائل القرن العشرين؛
وذلك لفسح المجال أمام إنشاء كيان غريب؛ تحت الرعاية البريطانية؛ التي جسدها
وعد بلفور.
وإذا كان مقص التقسيم في المرحلة الأولى أوربيا؛ يرتبط بمرحلة استعمارية؛ سيطرت
خلالها أوربا على قسم كبير من العالم في إفريقيا وآسيا؛ فإن نفس هذا المقص
هوالذي ما يزال يواصل وظيفته؛ لكن هذه المرة من منظور استعماري جديد؛ تشرف عليه
القوة الاستعمارية الأميركية. والهدف الواضح – طبعا – يؤكده السيد بيترز بوضوح
تام:
(الوصول إلى منابع النفط)
ولعل المطلع على هذا المقال الخطير؛ ليفهم بوضوح الإستراتيجية الأميركية؛ في
مشروع الشرق الأوسط الكبير؛ والتي تقوم على تامين مصادر النفط؛ وأي تشويش على
هذا الهدف؛ فهومبرر كاف لقلب جميع التوازنات القائمة في المنطقة. وقد أدى
العراق الثمن باهظا؛ حينما حاول التشويش على هذا الهدف؛ حيث تم تدميره على جميع
المستويات؛ ومن ثمة تحقق الانتقال به؛ من دولة قوية قادرة على عرقلة الخطط
الأميركية في منطقة الشرق الأوسط؛ إلى دولة تقوم نيابة عن المحافظين الجدد؛
بدعم هذه الخطط؛ وفسح المجال لتطبيقها بنسبة عالية من النجاح.
2-2 - هنري كيسنجر : إعادة صياغة خرائط المنطقة العربية
إن هذه الرؤية الإستراتيجية؛ التي يصوغها السيد رالف بيترز –في الحقيقة – ترتبط
براءة اختراعها؛ بوزير الخارجية الأميركي؛ ورئيس مجلس الأمن القومي الأميركي
السابق ( هنري كيسنجر )؛ الذي وضع مخططا مماثلا لتمزيق الوطن العربي.
وسواء مع رالف بيترز أومع هنري كيسنجر؛ تحضر إستراتيجية واحدة؛ تقوم على
السيطرة على مصادر النفط في المنطقة العربية؛ ولن يتم ذلك إلا عبر اللعب في
خرائط المنطقة؛ وإعادة صياغتها على المقاس الأميركي في كل مرة.
يقوم التصور الخرائطي لمنطقة الشرق الأوسط؛ كما صاغه هنري كيسنجر – كما هي عادة
جميع المخططات الأميركية – على اعتبار أن الدول المشكلة للعالم العربي؛ قطع
دومينو؛ يمكن التلاعب بها حسب المصالح الأميركية-الصهيونية ؛ وكأنها دول
فقاقيع؛ لا تمتد جذورها في الأرض التي تنتمي إليها - وهذا مكمن الداء الأميركي
- !!!
من هذا المنظور يعتبر السيد كيسنجر؛ أن العالم العربي؛ يتشكل من أربع وحدات
جغرافية متمايزة:
منطقة الهلال الخصيب ( سوريا؛ العراق؛ لبنان؛ الأردن؛ فلسطين)
منطقة الخليج العربي ( الإمارات؛ الكويت؛ السعودية؛ البحرين؛ سلطنة عمان)
منطقة المغرب العربي ( المغرب؛ الجزائر؛ تونس)
منطقة شمال إفريقيا ( مصر؛ ليبيا؛ السودان )
وتتميز أوضاع هذه المناطق بالاضطراب؛ وبضعف المؤسسات السياسية؛ وبافتقار
قياداتها إلى الرؤيا؛ وبفساد أجهزتها الإدارية؛ وبضعف بنيتها الداخلية.
ويعرض كيسنجر لأوضاع بعض دول المنطقة العربية؛ على الشكل التالي:
سورية: بلد ذوبنية متطرفة؛ لا يمكن ضبطه إلا بحكم عسكري.
لبنان: بلد هش التركيب؛ قابل للتعدد والانقسام.
العراق: بلد ذوثلاثة أجنحة؛ يعيقه الجناح الثالث عن الانطلاق.
الكويت: مدينة لا تستطيع أن تستمر وتعيش دون حماية خارجية.
السعودية: دولة ذات أجساد متعددة ولها رأس واحد.
مصر: دولة مستعرة الفقر والمشكلات.
الجزائر: دولة تنفق من رصيد ثورتها القابل والمشرف على النفاذ. (2)
واعتمادا على هذا التشريح الذي قام به السيد كيسنجر للمنطقة العربية؛ فإنه
يفتتح لإستراتيجية جديدة؛ لقلب الأوراق؛ وإعادة تشكيلها على مقاس المصالح
الأميركية-الصهيونية. وكيسنجر هنا لا ينظر للفراغ؛ بل يضع خططا؛ يمكنها أن
تستمر؛ حتى بعد مغادرته لمنصب صنع القرار في الإدارة الأميركية.
ولعل هذا هوما تم بالضبط؛ حيث أن الإدارة الأميركية؛ منذ كيسنجر وحتى الآن؛
تحسب أن الشرق الوسط يضم بلدانا يمكن الاستغناء عنها؛ ثمة دول فائضة فيها؛
وحدود دولها غير ثابته – كما ردد ذلك رالف بيترز– فهي تتحرك بتحرك الجماعات
العرقية والدينية؛ التي تقوم عليها فرضية الدويلات؛ التي من شانها تجزئة الدول
العربية؛ وتفتيت وحداتها الوطنية.
إن هذا المخطط الكيسنجري هوالذي وجه خطط الإدارة الأميركية؛ في شراكتها مع
الكيان الصهيوني بعد أحداث الحادي عشر من شتنبر/أيلول. ويمكن التوقف عند
مشروعين؛ جسدا هذه الخطط؛ بنسبة كبيرة من النجاح :
المشروع الأول يدخل في إطار خطة إستراتيجية؛ وضعها وولفوفيتس وديك تشيني؛ تهدف
إلى إعادة رسم خارطتي الشرق الأوسط وأوربا الوسطى؛ وتستند إلى اقتراحات أرييل
شارون وشاوول موفاز ؛ وملخصها هوالآتي:
تقسيم العربية السعودية؛ بما يسمح بإقامة دولة أومحمية خاضعة مباشرة؛ لسيطرة
شركات النفط الكبرى؛ وعلى رأسها أرامكو؛ وإقامة دولة تفتقر إلى النفط؛ وإلحاق
بعض المناطق باليمن وبالعراق الجديد
بعد إطاحة الرئيس صدام حسين يتم ما يلي:
ـ طرد الفلسطينيين من غرب فلسطين
ـ جعل إسرائيل دولة يهودية (صافية العرق)
ـ توطين الفلسطينيين في مناطق عراقية؛ بمن فيهم الفلسطينيون الموجودون في سوريا
ولبنان.
ـ إطاحة النظام السوري؛ وتأسيس دولة سورية مؤيدة للولايات المتحدة.
أما المشروع الثاني؛ فقد وضعته إدارة بوش-تشيني؛ وهدفه خلق (شريفية جديدة)؛
فالسلالة الهاشمية التي كانت تحكم السعودية والكويت واليمن مرشحة لتكوين شريفية
جديدة. أي مملكة أردنية؛ تمتد من نهر الأردن إلى الحدود الإيرانية؛ وتضم العراق
(مملكة هاشمية - فلسطينية - عراقية)؛ وينقل الفلسطينيون إليها من غزة. أما
الضفة الغربية؛ فتخضع لحكم مشترك من الشريفية الجديدة؛ ومن حكومة إسرائيل؛
ولاحقا تلتحق بالمملكة الشريفية؛ كجزء من الاتحاد الكونفدرالي المؤلف؛ من
العراق والأردن وما تبقى من فلسطين. (3)
سواء مع (هنري كسنجر) أومع (رالف بيترز)؛ ومن خلالهما صناع القرار الأميركي-
الصهيوني؛ حضرت خطة إعادة تقسيم منطقة الشرق الأوسط؛ وإعادة صياغة خرائطها.
وهذه الخطة جزء من استراتيجية شاملة؛ تقوم على ربط المنطقة بالمصالح الأميركية؛
وما ارتبط منها بموضوع الطاقة على وجه التحديد.
وفي إطار إعادة صياغة خرائط المنطقة؛ تم توطين الكيان الصهيوني؛ باعتباره شرطي
مرور؛ ينظم حركة السير على إيقاع اتجاه واحد؛ هوالاتجاه الأميركي. ومن هذا
المنظور فإن الاستراتيجية الأميركية- الصهيونية؛ تنحوفي اتجاه صناعة خارطة؛
تتشكل من دول (دمى) تحركها حسب مصالحها.
وفي هذا السياق بالذات؛ يحضر مشكل الأقليات في المنطقة؛ والتي اعتبرت في جميع
خطط التقسيم؛ المدخل الرئيسي لإنجاح أية خطة. فقد تم اللعب طوال مراحل الصراع؛
على هذا الوتر الحساس في المنطقة؛ وتم استغلال الأقليات؛ كورقة ضغط رابحة؛ تمكن
صناع القرار الأميركي – الصهيوني؛ من ربح رهان إعادة الهيكلة على مقاسهم الخاص.
وضمن هذا التصور حضر الموضوع الكردي؛ في منطقة المشرق العربي كحصان طروادة؛
يركب في كل مرة ويطلق له العنان بلا قيود؛ وفي نفس السياق يحضر موضوع الأمازيغ
وموضوع الصحراء الغربية في منطقة المغرب العربي؛ والذي يستغل من طرف القوى
الاستعمارية الكبرى لكبح جماح أي تطور يمكن أن يهدد مصالحها.
وهكذا تمتلك السياسة الأميركية – الصهيونية أوراق رابحة مدعومة من الداخل؛ وهي
بذلك تهدد الكثير من دول المنطقة العربية بالبلقنة؛ وذلك من منطلقات عرقية؛ لم
يعد يقبلها الحس الديمقراطي الغربي؛ الذي يدعمها؛ والذي حسم مع هذا الطرح؛ منذ
تشكل دولة المؤسسات؛ التي تضم عرقيات وأديان ومذاهب مختلفة ضمن إطار واحد؛
يحتكم فيه لحقوق وواجبات المواطنة؛ بغض النظر عن الانتماء العرقي أوالديني
أوالمذهبي. والكثير من الدول التي تشجع هذا الطرح العرقي؛ تمور داخليا بأعراق
وأديان ومذاهب مختلفة؛ اندمجت ضمن التصور الديمقراطي والمؤسساتي للدولة
الحديثة.
لكن الأمر مختلف تماما في تصور الشرق الأوسط الكبير؛ الذي يراد له أن يحتكم إلى
حدود الدم ( Blood borders) حيث يحضر مشكل الأقليات خارج أي حس ديمقراطي
ومؤسساتي؛ وتعلن الدعوة بالصريح والمباشر إلى تشكيل كيانات على أساس العرق
والدين؛ في تناقض صارخ مع جميع القيم السياسية؛ التي تقوم عليها الديمقراطية
الغربية؛ التي يتم التبشير بها كخيار استراتيجي في المنطقة.
وهذا يؤكد بالملموس والمباشر؛ أن الهدف الرئيسي؛ الذي يتمحور حوله الصراع؛
يرتبط بالهيمنة والسيطرة ؛ من منظور استعماري قديم؛ يقوم على استغلال الشعوب
والدول في بناء القوة المهيمنة الواحدة. وهذا ما كنا نظن أن قيم العصر الحديث
قد قطعت معه؛ لكن المكبوت يعود في كل مرة ويهدد ببروز حركات استعمارية جديدة؛
على شاكلة ما عرفته مرحلة القرن التاسع عشر.
ولذلك يحق لنا أن نتساءل: ما هوالفارق بين مخطط سايكس-بيكوومخطط الشرق الأوسط
الكبير ؟
إن البعد الاستعماري حاضر بقوة في كلا المخططين؛ من منطلق إعادة صياغة خرائط
منطقة الشرق الأوسط؛ بهدف المحافظة على مصالح الدول الاستعمارية؛ وجميع الوسائل
التي يمكن أن تحقق هذه الغاية مباحة ومشروعة؛ حتى ولوكانت تتناقض مع التصور
السياسي؛ الذي أقامه الغرب على أساس الديمقراطية والمواطنة ودولة المؤسسات.
ولذلك فإن هذا الحس الاستعماري؛ يدفع الكثير من الدول التي تدعي حماية ودعم
المؤسسات الدولية؛ يدفعها إلى استغلال هذه المؤسسات؛ بما تجسده من قيم كونية؛
في تبرير قيم الحرب والاستعمار؛ كما يدفعها إلى الدفاع عن نماذج سياسية قديمة
–تحاربها داخليا- تقوم على أساس العرق والدين.
الهوامش:
Ralf Peters – Blood borders: how a better middle east would look – AFJ
(Armed Forces Journal.
ساسين عساف – الوحدة العربية في مواجهة المشروع الصهيوني – مجلة المستقبل
العربي- فبراير/شباط 2010 – ع: 372- ص: 19
نفس المرجع – ص: 20-21.