@@@
وإليكم التفسير:
النور
في كلام العرب : الأضواء المدركة بالبصر . واستعمل مجازا فيما صح من المعاني ولاح ; فيقال منه : كلام له نور. ومنه : الكتاب المنير , ومنه قول الشاعر : نسب كأن عليه من شمس الضحا نورا ومن فلق الصباح عمودا والناس يقولون : فلان نور البلد , وشمس العصر وقمره. وقال : فإنك شمس والملوك كواكب وقال آخر : هلا خصصت من البلاد بمقصد قمر القبائل خالد بن يزيد وقال آخر : إذا سار عبد الله من مرو ليلة فقد سار منها نورها وجمالها فيجوز أن يقال : لله تعالى نور , من جهة المدح لأنه أوجد الأشياء ونور جميع الأشياء منه ابتداؤها وعنه صدورها , وهو سبحانه ليس من الأضواء المدركة جل وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا . وقد قال هشام الجوالقي وطائفة من المجسمة : هو نور لا كالأنوار , وجسم لا كالأجسام . وهذا كله محال على الله تعالى عقلا ونقلا على ما يعرف في موضعه من علم الكلام . ثم إن قولهم متناقض ; فإن قولهم جسم أو نور حكم عليه بحقيقة ذلك , وقولهم لا كالأنوار ولا كالأجسام نفي لما أثبتوه من الجسمية والنور ; وذلك متناقض , وتحقيقه في علم الكلام . والذي أوقعهم في ذلك ظواهر اتبعوها منها هذه الآية , وقوله عليه السلام إذا قام من الليل يتهجد ( اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ) . وقال عليه السلام وقد سئل : هل رأيت ربك ؟ فقال : ( رأيت نورا ) . إلى غير ذلك من الأحاديث .
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية ; فقيل : المعنى أي به وبقدرته أنارت أضواؤها , واستقامت أمورها , وقامت مصنوعاتها . فالكلام على التقريب للذهن ; كما يقال : الملك نور أهل البلد ; أي به قوام أمرها وصلاح جملتها ; لجريان أموره على سنن السداد. فهو في الملك مجاز , وهو في صفة الله حقيقة محضة , إذ هو الذي أبدع الموجودات وخلق العقل نورا هاديا ; لأن ظهور الموجود به حصل كما حصل بالضوء ظهور المبصرات , تبارك وتعالى لا رب غيره . قال معناه مجاهد والزهري وغيرهما . قال ابن عرفة : أي منور السموات والأرض . وكذا قال الضحاك والقرظي . كما يقولون : فلان غياثنا ; أي مغيثنا. وفلان زادي ; أي مزودي . قال جرير : وأنت لنا نور وغيث وعصمة ونبت لمن يرجو نداك وريق أي ذو ورق . وقال مجاهد : مدبر الأمور في السموات والأرض. أبي بن كعب والحسن وأبو العالية : مزين السموات بالشمس والقمر والنجوم , ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين. وقال ابن عباس وأنس : المعنى الله هادي أهل السموات والأرض. والأول أعم للمعاني وأصح مع التأويل
مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة
أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن ; والدلائل تسمى نورا . وقد سمى الله تعالى كتابه نورا فقال : " وأنزلنا إليكم نورا مبينا " [ النساء : 174 ] وسمى نبيه نورا فقال : " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين " [ المائدة : 15 ] . وهذا لأن الكتاب يهدي ويبين , وكذلك الرسول . ووجه الإضافة إلى الله تعالى أنه مثبت الدلالة ومبينها وواضعها. وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل به , بل وقع التشبيه فيه جملة بجملة , وذلك أن يريد مثل نور الله الذي هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة , كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة , التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس ; فمثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر . والمشكاة : الكوة في الحائط غير النافذة ; قاله ابن جبير وجمهور المفسرين , وهي أجمع للضوء , والمصباح فيها أكثر إنارة منه في غيرها , وأصلها الوعاء يجعل فيه الشيء . والمشكاة وعاء من أدم كالدلو يبرد فيها الماء ; وهو على وزن مفعلة كالمقراة والمصفاة . قال الشاعر : كأن عينيه مشكاتان في حجر قيضا اقتياضا بأطراف المناقير وقيل : المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة . وقال مجاهد : هي القنديل . وقال " في زجاجة " لأنه جسم شفاف , والمصباح فيه أنور منه في غير الزجاج . والمصباح : الفتيل بناره
الزجاجة كأنها كوكب دري
أي في الإنارة والضوء. وذلك يحتمل معنيين : إما أن يريد أنها بالمصباح كذلك , وإما أن يريد أنها في نفسها لصفائها وجودة جوهرها كذلك . وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور. قال الضحاك : الكوكب الدري هو الزهرة .
يوقد من شجرة مباركة زيتونة
أي من زيت شجرة , فحذف المضاف . والمبارة المنماة ; والزيتون من أعظم الثمار نماء , والرمان كذلك . والمعنى يقتضي ذلك. وقول أبي طالب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس : ليت شعري مسافر بن أبي عمرو وليت يقولها المحزون بورك الميت الغريب كما بو رك نبع الرمان والزيتون وقيل : من بركتهما أن أغصانهما تورق من أسفلها إلى أعلاها . وقال ابن عباس : في الزيتونة منافع , يسرج بالزيت , وهو إدام ودهان ودباغ , ووقود يوقد بحطبه وتفله , وليس فيه شيء إلا وفيه منفعة , حتى الرماد يغسل به الإبريسم . وهي أول شجرة نبتت في الدنيا , وأول شجرة نبتت بعد الطوفان , وتنبت في منازل الأنبياء والأرض المقدسة , ودعا لها سبعون نبيا بالبركة ; منهم إبراهيم , ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم فإنه قال : ( اللهم بارك في الزيت والزيتون ) . قاله مرتين .
لا شرقية ولا غربية
اختلف العلماء في قوله تعالى : " لا شرقية ولا غربية " فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم : الشرقية التي تصيبها الشمس إذا شرقت ولا تصيبها إذا غربت ; لأن لها سترا . والغربية عكسها ; أي أنها شجرة في صحراء ومنكشف من الأرض لا يواريها عن الشمس شيء وهو أجود لزيتها , فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية , بل هي شرقية غربية . وقال الطبري عن ابن عباس : إنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها ; فهي غير منكشفة من جهة الشرق ولا من جهة الغرب . قال ابن عطية : وهذا قول لا يصح عن ابن عباس ; لأن الثمرة التي بهذه الصفة يفسد جناها , وذلك مشاهد في الوجود . وقال الحسن : ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا , وإنما هو مثل ضربه الله تعالى لنوره , ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية . الثعلبي : وقد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا ; لأنها بدل من الشجرة , فقال " زيتونة " . وقال ابن زيد : إنها من شجر الشأم ; فإن شجر الشأم لا شرقي ولا غربي , وشجر الشأم هو أفضل الشجر , وهي الأرض المباركة , و " شرقية " نعت " لزيتونة " و " لا " ليست تحول بين النعت والمنعوت , " ولا غربية " عطف عليه .
يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار
مبالغة في حسنه وصفائه وجودته .
نور على نور
أي اجتمع في المشكاة ضوء المصباح إلى ضوء الزجاجة وإلى ضوء الزيت فصار لذلك نور على نور . واعتقلت هذه الأنوار في المشكاة فصارت كأنور ما يكون فكذلك براهين الله تعالى واضحة , وهي برهان بعد برهان , وتنبيه بعد تنبيه ; كإرساله الرسل وإنزاله الكتب , ومواعظ تتكرر فيها لمن له عقل معتبر . ثم ذكر تعالى هداه لنوره من شاء وأسعد من عباده , وذكر تفضله للعباد في ضرب الأمثال لتقع لهم العبرة والنظر المؤدي إلى الإيمان .
:eh_s(7):
@@@