بلا اتجاه

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
حار في التصرف الذي يجب أن يبديه الآن؟ هل يسلم عليها ويرحب بها؟ أم أن هذا سيعتبر تطفلا ً من جانبه؟ سيسلم عليها... لا... لن يفعل... ولكن أليس في ذلك قلة ذوق؟

وفرت مجروحة عليه حيرته عندما كتبت:

ما بقى غير ....(مجروحة): السلام عليكم.

ما بقى غير ....(مجروحة): مساء الخير.

ضوء: وعليكم السلام... مساء النور.

مجروحة: كيف الحال؟

ضوء: الحمد لله بخير... كيف حالك أنت ِ؟

مجروحة: بخير والحمد لله... بصراحة ما توقعت أحصل أحد الوقت هذا.

ضوء: أنا يئست أنه أحد يدخل، الناس مشغولة بالامتحانات.

مجروحة: الحمد لله أنا مخلصة من هذا الهم.

ضوء: ما شاء الله... وش هالكلية اللي مخلصة بدري؟

مجروحة: لا، أنا تخرجت السنة الماضية، أشتغل الآن.

ضوء: آها... الله يوفقك يا رب، لا احنا لسى، الله يعين بس.

مر وقت ولم يأته رد على عبارته الأخيرة، ماذا يفعل الآن؟ هل يبادرها بالحديث؟ أم ينتظرها لتكمل ما بدأته هي، حقيقة ً أن حمد لم يتعود على الحديث مع الفتيات... لا على أرض الواقع، ولا على الانترنت، لم يمتلك يوما ً خبرة في الأسلوب الملائم الذي يخاطب به الإناث وهو أسلوب يختلف قطعا ً عن أسلوب تعامله مع مروان أو عبد العزيز أو غيرهم.

في البداية كان يواجه المعضلة العظمى عندما يتصادف أن يرد على هاتف المنزل في أحد الأيام ليجد على الطرف الآخر إحدى صديقات أخته هيلة الكثيرات، تتلخص المعضلة التي لم يجد لها مجمع اللغة العربية حلا ً حتى الآن في كاف المخاطبة، فمثلا ً كانت الخيارات المتاحة أمام حمد عندما يوجه سؤال (كيف حالك؟) لأنثى على النحو التالي ( حالتس/ حالس/ حالتكي/ حالتِكٌ/ حالش/ حالك) المشكلة هنا تكمن في أن الخيارات المتاحة كلها غير مناسبة، فحالتس... تصلح عندما يخاطب جدته، أمه، أخواته، ولكن للأخريات خارج النطاق لا تبدو جيدة، أما حالس... فهي مضحكة، تخيلوا رجلا ً يكلم زوجته هكذا ( أنا أحبس... أفكر فيس... أتمنى أسعدس... أحطس في قلبي... أتأمل عيونس... أهيم في آفاقس...) أرأيتم؟ نأتي إلى حالتكي... صعبة النطق ثم إنها متكلفة جدا ً، أما حالتك فمشكلتها أن الكاف هنا تبدو كنقرة على سطح مجوف كما أنها متكلفة أيضا ً، حالش أيضا ً غير مناسبة لنفس أسباب حالس، وأخيرا ً حالك... وهي صيغة مخاطبة للمذكر.

قلنا هذا في البداية فقط، بعدها تأتي مشكلة أن ما يقال للذكر لا يجب أن يقال للأنثى، فبإمكانه أن يقول لمروان مثلا ً لمجرد الحديث ( أحس حالي متضايق شوي) فيكون الرد ( وسع صدرك يا بن الحلال... هونها وهي تهون) ولكن عندما توجه نفس العبارة لهيلة فالرد لن يكون أقل من ( متضايق؟ يوووووه... ليه؟ لا يكون مني؟ أنا آسفة، والله آسفة، ضايقتك؟ صدق والله؟ طيب كيف؟ متى طيب؟ من هو؟ وش السالفة؟ إلخ.....).

وفرت عليه مجروحة هذه الهواجس مرة أخرى بكتابتها:

مجروحة: الله يوفقك.

ضوء: الله يسمع منك... آمين.

مجروحة: طيب ورى ما تروح تذاكر زي الناس؟ ( وجه تعبيري ضاحك)

ضوء: بصراحة ما قدرت ما لي نفس... أنا من النوع اللي يذاكر ليلة الامتحان.

مجروحة: ههههههه، مثلي أنا كنت أكره المذاكرة كثير، وأيام الامتحانات كانت أيام سوداء بالنسبة لي.

ضوء: المشكلة....
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الأربعاء/ الحادية عشرة مساء ً.

ها هو أربعاء منزلي آخر بعد كل تلك الأربعاءات التي قضاها على الرمال، تحمل له رياح الشمال رائحة الخزامى والشيح، وتطقطق أمامه جذوع الغضا أو السمر، أربعاء يقضيه في المنزل كدابة الرحى، يعابث لمى قليلا ً يحملها ويغضبها، فتضربه بيدها الصغيرة، فيغطي وجهه بيديه ويصطنع البكاء، فتحن عليه وتضم رأسه إلى صدرها وهي تقول " آلاص... آلاص" ( خلاص... خلاص) أو يقصد غرفة أخواته هيلة وعبير ويشاكسهن حتى يزعقن مستنجدات بالأب القابع في صومعته فيفر هاربا ً، ليقتحم غرفة أخيه الصغير سعد ويقفز ليجلس متربعا ً على السرير وهو يقول مستهترا ً " تعال أنت الحين وخشك، وراك تخلي خالد يخلي نورا يالردي، ورى ما خليته يعرس عليها، وإلا خايف تصير تكاليف العرس عليك يا لبخيل"، وسعد الصغير ينظر إليه باستغراب ثم يبتسم ابتسامة بلهاء اتقاء ً للشر، فيتركه ويثب هابطا ً إلى الدور الأرضي قاصدا ً المطبخ حيث أمه تقوم بعمل ما، تخلل المحشي أو تحشي المخلل، الله أعلم... فيعابثها ويمازحها ثم يفر هاربا ً عندما تزعق به " يا عل الله لا يسلط علينا... يا وليدي رح ذاكر لك شيء ينفعك" جوابا ً على قوله " يمه... ما ودتس تشوفين لأبوي حرمة مثقفة تجلس معه توسع صدره في هالمكتب بدال مهوب قاعد لحاله"... لا غرابة في هذا الجدول المزدحم، فهو الفراغ... الفراغ الذي يزهق روحه ويجثم عليها.

والآن... وعندما أوفت الساعة على الحادية عشرة، وأغلق الباب ورائه، وجلس أمام الجهاز، أعترف لنفسه بكل بساطة أنه كان ينتظر هذه اللحظة منذ فتح عينيه في الصباح.

بالأمس عندما أغلق جهازه واستقر على سريره، داخلته نشوة غريبة وشعور جميل، كان شعورا ً غريبا ً لا معنى له، أعقب السأم والكآبة والملل التي بدأ بها يومه، شعور داخله بعد لقاءه وحديثه بمجروحة، ارتاح لها كثيرا ً، كان حديثهما محايدا ً... بسيطا ً... قصيرا ً لأنها استأذنت وخرجت بدعوى تأخر الوقت ورغبتها في النوم من أجل نهوض باكر للعمل، ولكنه أحس بتبسطها معه، وخروجها من التحفظ الملازم لها في الاجتماعات، هل ارتاحت لي هي أيضا ً؟

ولذلك فكر بالدخول مبكرا ً اليوم، عله يظفر بوقت أطول معها، " ما هذا؟" توقف وسأل نفسه؟ لماذا أتشوق يا ترى للحديث معها؟ ما معنى هذا الشعور؟ هل لأنها علاقة جديدة وغامضة وأريد كشف غموضها؟ ولكن لم َ لم أشعر بمثل ذلك مع الليل؟ هل لأنها فتاة؟ ولكن ما الذي سأستفيده من كونها فتاة؟ هل أريد منها شيئا ً؟ لا والعياذ بالله... أنا لا أرضى لأحد أن يمس أختي هيلة فلذلك يجب أن أصون نفسي عن هذه الأشياء، ولكن لحظة... أنا تشوقت لمعرفة سعد وأعقب معرفتي به نشوة وارتياح، ربما هذا الشعور مثل ذاك، لا... لا... لا تخدع نفسك، الشعور ليس هو، هناك شيء يجذبني لها، ولكن ما هو؟ ما هو؟

المسينجر الغاص دوما ً خال ٍ الآن كعرفة في يوم النحر، خاب أمله، تمنى أن يجدها ولكن لا بأس ربما تأتي، اليوم أربعاء ولا عجلة هنالك، مضى يقلب طرفه بين المواقع والصفحات بسأم يتعاظم، حتى انتصف الليل وأيقن من أنها لن تأتي، يبدو أنه مقدر له أن يمضي هذه الليلة في القراءة.

ترك الجهاز ونزل ليحضر له شيئا ً باردا ً يشربه، كان الدور الأرضي مظلما ً وقد أوى الجميع إلى فرشهم، ما عدا والده الذي لازال النور ينبعث من تحت باب مكتبه، لكم تعجب من جلد والده ومحبته للقراءة والعلم، ساعات طويلة ينفقها في مكتبه الغاص بالكتب والمجلدات والبحوث.

عاد إلى غرفته وحالما دخلها شاهد المسينجر يتألق بون برتقالي بمعنى تلقيه ردا ً، لقد جاءت، أسرع إلى الجهاز، كانت قد كتبت:

- السلام عليكم
- مساء الخير
- صح النوم
- آلوووو
- آلووووو

كتب لها بفرحة:

ضوء: وعليكم السلام.

ضوء: مساء النور.

ضوء: عذرا ً تركت الجهاز شوي عشان أجيب لي شيء أشربه.

مجروحة: هلا، توقعت إنك بترد بسرعة، كيف الحال؟

ضوء: الحمد لله... بخير وأنت ِ كيف حالك؟

مجروحة: الحمد لله، كوووول، طفشان؟ ههههههه

ضوء: هههههه، خليها على الله، اليوم أذيت أهلي من الطفش والملل.

مجروحة: الله يعين، ما كان لي نية صراحة أدخل المسينجر، لأني رجعت من الدوام تعبانة وبعدين طلعنا من البيت نزور أقرباء وتوي راجعة، بس قلت أدخل أسلم عليك قبل لا أنام، توقعتك سهران.

ضوء: يسلمك ربي، سهران والله... ما وراي شيء، الناس كلها ماسكة دروسها وأنا انتظر الفأس تطيح بالرأس.

مجروحة: هههههه، الله يوفقك... طيب أنا أستأذن الآن، بصراحة مو قادرة أفتح عيوني.

ضوء: تصبحين على خير، وشكرا ً على الزيارة.

مجروحة: بتكون هنا بكرة؟

ضوء: إن شاء الله، بكون هنا كل يوم حتى يقولون بكرة امتحان.

مجروحة: أوكي، بحاول أدخل بكرة أسولف معك، بكون مصحصحة وشبعانة نوم... إن شاء الله.

ضوء: حياك الله بأي وقت وهذي الساعة المباركة.

مجروحة: مع السلامة.

ضوء: مع السلامة.

* * *

" كان لقاء ً قصيرا ً" قالها لنفسه بعدما أعاد قراءة الحوار مرات ومرات، هل قالت أنها دخلت لتسلم عليه فقط؟ نعم قالت ذلك، وهل سألته إن كان سيتواجد غدا ً كأنما هو السبب الوحيد الذي يدعوها للدخول؟ نعم لمحت لذلك.

ترك النشوة والتساؤلات تدغدغه، ترك نفسه لهجمة الهواجس والأفكار حتى استنقذه النعاس ثم النوم منها... حتى حين.

* * *
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الخميس/ الساعة 11.02 مساء ً.

هل مر به يوم كهذا اليوم؟ يوم لا معنى له، منذ أصبح الصباح وهو ينظر إلى الساعة، يستحث الوقت، يفرح بمرور الدقيقة... الساعة، صار يقتل يومه ببطء وبملل، يتشاغل، يحاول أن يفعل شيئا ً ما لا يدري كنهه.

خرج عصرا ً ليقوم بقليل من المهام التافهة، وبكثير من الدوران بلا هدى وبلا اتجاه، ولكنه أوقف سيارته بصورة مفاجئة في شارع الحسن بن علي أمام دكان خياط ما، غير آبه بنظرات الخياط الباكستاني ذو الشارب الضخم الذي يحمل اسم ( غلام شاه أو أسد الله أو شيء مشابه لهذا)، عندما قرر أن يقف أمام نفسه بصراحة بدلا ً من هذا الهروب الذي لا يحمل معنى.

" لماذا أحرق يومي هكذا؟" تساءل، ما الذي أنتظره بالضبط؟ مجرد محادثة مسينجر؟ يوم من حياتي سيذهب بلا رجعة، أحرقه من أجل محادثة مسينجر وهواجس ورغبات غبية؟ ثم ماذا ستحمل لي هذه المحادثة؟ هه؟ لا شيء... لا شيء.

حرك سيارته وهو يتميز غيظا ً، كان يكره هذا الطبع الذي يبدو أنه لن يتخلص منه أبدا ً، هذه الهواجس والخيالات والأفكار التي لا تنفك تتكرر وتكرر وتزداد ويصبح لها تفاصيل وثنايا، يكره في نفسه تناوله للكلمات الصغيرة، الأحداث التافهة من حوله التي يرميها الجميع ثم يمضون، بينما يتناولها هو ليصنع منها عالما ً... يزيد فيها ويضيف لها كل يوم حتى يأتي يوم ينسى فيه ما الأصل وما المتخيل.

تذكر سعد، وانفجاره المشئوم في طريق النهضة، واستعاد ذلك الإحساس الذي أحس به عندما غابت عن عينيه أنوار سيارته الخلفية وهو يغادر، ذلك المزيج البغيض من الكآبة والافتقاد إلى شيء ما والرغبة الملحة في شيء ما.

هل من الممكن أن يستعذب الإنسان الحزن؟ هل الآلام والأحزان هي الوجه الآخر للذة؟ أين يقع الخط الفاصل بين الألم واللذة؟ لم َ نبكي عندما نسمع لحنا ً جميلا ً؟ بينما كان المفروض أن نضحك ونفرح، لم َ؟ هل هذه هي الماسوشية؟ هل أنا ماسوشي؟ أم أن الماسوشية تختص بالتعذيب المادي البدني فقط؟ إذن ما هو اللفظ الذي يحتوي التعذيب الروحي؟ البارانويا؟ لا أعلم... سأسأل سعد عن ذلك يوما ً.

والآن وهو يجلس أمام الجهاز، كان يعيد على نفسه السؤال الذي ما فتئ يردده منذ العصر، ما معنى كل هذا؟ ما الذي يجذبني إلى المسينجر؟ ما الذي يجذبني إليها؟ أريد أن أفهم... أريد أن أفهم.

تمنى لبرهة أن تخلف وعدها وأن لا تأتي، ولكن هذه الأمنية سرعان ما فرت وغابت في حرقة الانتظار، بعد نصف ساعة مملة جاءت، جاءت كغمامة باردة اجتاحت فضاءه المختنق بالحرارة والرطوبة، تحدثت، ضحكت، ثم رحلت.

وفي عتمة غرفته التي لا يضيئها سوى وميض شاشة الحاسب، كان يجلس بنفس الوضعية التي ظل عليها منذ رحلت، هناك شيء يعمل بطريقة غير صحيحة، يعرف هذا ويشعر به، وبلا سبب مفهوم أحس بشوق غريب لسعد... كأنما قد مر دهر منذ تحدث معه لآخر مرة.

* * * * * * * * *

الفصل السابع عشر

مرت تلكم الأسابيع الثلاثة وأسبوعي الامتحانات التي تلتها كأي شيء في هذه الدنيا، نخاف منه، نهتم به، يشغلنا أيام وليالي، ثم يمر ليصبح مجرد ذكرى مدفونة في الركام الذي يكون ذواتنا، أفكارنا، وآرائنا.

ها هما حمد ومروان يجلسان كعادتهما في البهو البارد محتفلين بانتهاء الامتحانات، كانت علاقتهما لازالت ذات شروخ، فقد انقطعا في البداية مدة الثلاثة أسابيع، لا رابط بينهما سوى مكالمات سريعة يجريها حمد مداهنة ً لرأب الصدوع، ثم صارا يلتقيان بعد كل امتحان، يجلسان جلسة سريعة تتخللها أحاديث الدرس والتحصيل ثم يفترقان.

واليوم وهما يجلسان في أيديهما أكواب العصير الطافحة والتي تسبح فيها قطع الثلج، ورائحة البرتقال الزكية تعبق في الجو، كان حمد يأمل أن تزول الرواسب المتبقية التي عكرت صفاء تلك الصداقة القديمة.

توقفا عن الضحك وتراجع كل منهما في كرسيه، فكر مروان بشرود بالأسابيع الثلاثة التي مضت، الأسابيع التي أمضاها في الضنك والشدة، فهو رغم حرصه الشديد ومثابرته، يعاني منذ الصغر بطء في القراءة وفي الاستيعاب، كان يدور في الغرفة في الليالي التي تسبق الامتحان وهو يردد بصوته الأجش كامل المنهج، التعريفات، الشروح، وحتى المسائل وحلولها، ثم في اليوم الذي يسبق الامتحان يلعب ورقته الأخيرة، يقصد الهاتف ويتصل بجدته التي تسكن في مدينة تبعد عن الرياض مئات الكيلومترات ويطلب منها الدعاء له عند قيامها الليل، حينها كان ينام قرير العين بأن تلك العجوز المقعدة طيبة القلب ليس بينها وبين رب العباد حجاب، وأنها متى ما رفعت يديها إلى السماء استجيب لدعواتها.

حمد كان في شأن آخر، كان يشعر بخليط الفرح والشوق، الفرح بانتهاء الامتحانات، والشوق إليها، إلى مجروحة التي عاشت معه الأسابيع الماضية، على المسينجر قبل أيام الامتحانات، وبرسائلها المشجعة عندما غاب في حمئة الكتب والمذكرات، كان كل يوم ينهض من النوم في الظهيرة، يصلي الظهر ثم يتناول إفطاره الذي صار غداء ً، أو غدائه الذي صار إفطارا ً، أيهما أصح... ثم عندما يصلي العصر يبدأ بالغوص في ركام المذكرات المخربشة بمئات الملاحظات والتي جمعها من زملائه، والتي تشي كل صفحة من صفحاتها بالذين مروا بها يوما ً، هذا خط شاب متحمس، يبدو أنه كان يدون كل شيء، وهذا شاب عابث سود أكثر الصفحات بأبيات غزلية بخطه المنمنم الجميل، وهذه الصفحة التشكيلية التي أحصى فيها ثمانية ألوان مختلفة، هيه... فتاة مرت هنا، وعندما ييأس من المذكرات يتناول أسئلة السنوات السابقة، ويقوم بالدوران في الغرفة وهو يردد " وش هالسؤال؟ يا ربيه... والله هيروغليفي، والله العظيم منب فاهم ولا كلمة منه، وش يبي ذا؟ لو بكرة يجي بالاختبار وشلون بحله؟" تلعب به الوساوس فيهرع إلى جهاز الهاتف ويتصل بمروان، فيأتيه صوت مروان المبحوح من كثر الترديد والقراءة، يسأله بعجل فيهرع مروان مرتجفا ً إلى مكتبه ويبعثر كل أوراقه بحثا ً عن الورقة المعنية، وعندما يجدها ويقرأ السؤال يزعق في الهاتف " حمد... لعبت بأعصابي، حسبي الله عليك، هذا السؤال محذوف، يا أخي أنت وين عايش؟ يا أخي خلنا نذاكر زي الناس الله يرضى عليك"، كان حمد يتحمل كل هذا الضغط ويظل متماسكا ً لأنه كان يمني نفسه بأنه عندما يجن الليل، وعندما لا يعود شيء يومض في هذا البيت سوى ساعاته الجدارية، ولا صوت يسمع إلا دقاتها، حينها سيفتح بريده الالكتروني ليجد بانتظاره رسالة جميلة منها، رسالة تخبره فيها بما مر بها في يومها هذا، تشجعه ببضع كلمات وتستفسر عن صحته وامتحاناته التي أداها كيف كانت، يخربش لها ردا ً بسيطا ً ثم يصحب كلماتها معه إلى سريره، ليفقدها على باب النوم، وربما تسللت معه أحيانا ً إلى ما وراء الباب الموارب.

نمت علاقته بمجروحة وخصوصا ً في الأسابيع الأولى، كانت محادثاتهما في البداية لا تتعدى المجاملات والشأن الأدبي، والمنتدى ومواضيع بسيطة متفرقة، وسرعان ما تنتهي المحادثة بانسحاب مجروحة بدعوى النوم، ثم بدأت المحادثات تتعدى نطاق المواضيع التي صارت مكررة... مملة... لتخوض في أطراف مفازات الشئون الشخصية، حدثته عن عملها، فوجدت لديه اهتماما ً ومشاركة، تشجعت فحدثته عن همومها اليومية، فأحلامها، فطموحاتها، حتى مخاوفها، أعجبها فيه أنه لم يحاول ولا مرة... ولا مرة لعب دور الموجه أو الأستاذ الذي يحب الجميع من حولها لعبه، أمها، أبيها، أخواتها، زميلاتها، صديقاتها، ومن تحاورهم على الانترنت من وقت إلى آخر.
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
بدا لها حمد مختلفا ً... كانت تستطيع إخباره بأشياء كثيرة، بأغبى الأشياء وأتفهها بدون أن تخشى أن يصدع رأسها بمحاضرة طويلة، أو بفلسفات لا تطيقها، كان طيب القلب متفهما ً ولذلك وجدت أقدامها تغوص في أراضي لم تجربها قبلا ً... أراضي سمعت دوما ً أنها بلقعا ً ذات دروب مهلكة، ولكنها اليوم وهي تخطو فيها بدأت لها مزهرة وذات أطيار وأحجار ملونة.

كانت فاطمة ( وهذا هو اسمها) قد نشأت في عائلة صغيرة مكونة من أب وأم وأختين تكبرانها وأخوين يصغرانها، كان أبوها من طينة الآباء المتجهمين الذين لا يضحكون ولا يمزحون، الآباء الذين يستخدمون فعل الأمر بإفراط، قم، اجلس، اذهب، افعل، أو يستعملون لا الناهية بلا نهاية، لا تفعل، لا تنم، لا... ولا...، الآباء الذين يؤمنون أن النقد باستمرار هو طريق الإصلاح.

أمها كانت من صنف الأمهات اللواتي يعشن على ضفاف الأحداث، لا تمثل سوى سلطة تنفيذية للأب الذي بمثابة السلطة التشريعية والقضائية وقوات التدخل السريع حتى، ولطالما شكت فاطمة وهي تقتعد الدرج الرخامي المشروخ في الكلية مع صديقتها الروحية ( جواهر) " أمي طيبة جدا ً... ولكنها لا تشعرنا بوجودها، لا رأي لها في أي شيء يحدث في البيت، ولو صدف يوم وقالت رأيا ً لجاء موافقا ً لرأي أبي"، كان ذلك في أيام الصفاء التي جمعتها بجواهر، عندما كانت تربطهما المحبة والأسرار الصغيرة، وعندما كن يضحكن ويبكين أمام بعض بلا عقد، قبل أن يأتي اليوم الذي تهرب فيه كلا ً منهما من الأخرى.

أختها الكبرى ( سلمى) كانت قد تزوجت منذ دهر، وصارت تجر ورائها عندما تأتي لزيارتهم في أيام الخميس طفليها الشقيين ( عبدالله وشهد)، أما أختها الثانية ( سراب) فقد كانت تعيش على أنقاض قلب خرب، وأحلام قد وافقت اسمها.

كانت مشاعر فاطمة تجاهها خليط من الرثاء والكراهية... الرثاء لحالها وأحلامها التي تهاوت، والكراهية لعصبيتها ونقدها الدائم والمتذمر الذي ورثته من أبيها، كانت ( سراب) ذات الملامح والتقاطيع الجميلة متعلقة لسنوات بخيط حب واه يجمعها بابن خالتها الذي يدرس متغربا ً في كندا، ومن أجله انتظرت كثيرا ً ورفضت كل التلميحات التي كانت تأتيها من أمهات يفتشن لأبنائهن، ولكن ابن الخالة عاد بوجه غير الذي ذهب به.

عاد وقد انسلخ من جلده وارتدى أسمالا ً فكرية، عاد بقلب موبوء وعقل مرزوء، عاد وتزوج عندما تزوج فتاة زاملته في عمله بأحد مستشفيات الرياض الكبرى، فضلها على ابنة خالته الساذجة، ذات الفكر المتخلف البائد كما كان يردد بلا حياء.

لم تنكفئ سراب في غرفتها لتبكي كما كان مفترضا ً ومتوقعا ً، بل إنها ويا للعجب أصرت على حضور الزواج الذي عقد في فندق كبير وشاركت في الرقص إمعانا ً في إظهار عدم اهتمامها، ولكن الملاحظ أن عصبيتها وشراستها صارت لا تطاق بعدما حدث، وكلماتها صارت كلقم حنظل في حلوق محدثيها أو المتعرضين لها، حتى الأب الذي كان يفري الكل بلسانه، صار يتقي الصدام معها وهو يردد " ذا البنت ما تحشم أحد... الله يخلف علينا".

ولذلك شبت فاطمة على كراهية النقد، والصدود عن كل من يحاول نصحها أو توجيهها، وصارت معاركها مع أختها يومية، تخرج هي منها بدموع وكلمات " أوف... وش هالعيشة"، حتى من الله عليها فغادرت الغرفة المشتركة التي تجمعهما إلى غرفة صغيرة في الطرف الآخر من المنزل كانت مخزنا ً فيما مضى.

غرفتها الجديدة ضيقة كقبر، وروائح الأرز والبهارات وأشياء غامضة أخرى لا تزال عالقة في جوها، ولكنها كانت كمملكة في عيني فاطمة، مملكة تخصها وحدها، مملكة تنفرد فيها بعيدا ً عن تسلط أختها ولسانها وكلماتها.

صحيح أن هذا الانفصال وهذه الغرفة الجديدة لم تقها من لسان أختها وتدخلاتها بشكل كامل، ولكنها وفرت لها على الأقل جوها الخاص الذي تستطيع فيه تمضية وقتها براحة وطمأنينة.

كانت فاطمة تعيش حلما ً يوميا ً ساذجا ً، حلم الشاب الحنون ذو الصوت الهامس الذي يأتي ويتزوجها ويخرجها من هذا البيت الكئيب، ويحملها إلى بيت صغير جميل يعبق برائحة الزهور، ولا تسمع فيه إلا كلمات الحب، كانت ملامح هذا الشاب غير نهائية، فكل يوم ترسم له صورة جديدة، تبدلها في الليل والنهار، تضيف لها وتحذف منها.

وفي جوف الليل تجلس أمام المرآة، عندما لا يعود يسمع إلا معارك القطط في الباحة الخلفية، ومعزوفة الحشرات الليلية، تجلس وتمرر المشط في شعرها وهي تتأمل ملامحها التي يغشيها الظلام متسائلة السؤال التاريخي إياه... لم َ لم أكن أجمل؟ يقال – كذبا ً – أن آخر العنقود أحلاه، هي آخر العنقود من الفتيات على الأقل، فلم ذهب الجمال و ذهبت الحلاوة إلى سراب، سراب التي لا يطيقها أحد، سراب الوحيدة التي احتاجت ولادتها إلى شق عميق في بطن أمها، سراب... سراب... أستغفر الله... أستغفر الله... وهل نفع الجمال سرابا ً؟ جمالها هو الذي ضاهى أحلامها بالسراب، سبحان الله... ألا يرضى ابن آدم بحكم الله وعدله وقسمته؟ الأبيض يريد سمرة برونزية، والأسود يريد بياضا ً حليبيا ً، والوسيم يريد تقاطيعا ً قوية وجيهة، وذو التقاطيع القوية يريد ملامح رقيقة وناعمة، اللهم بلغنا الرضا بالحال... تردد هذه الكلمات دائما ً وتحملها معها أينما حلت.

تلكم الظروف خلقت فيها محبة الجمال، الورود، الأطفال، والشعر... أحبت الشعر منذ اليوم الذي قرأت فيه بيتي قيس بن الملوح:

وكنت وعدتني يا قلب أني إذا ما تبت عن ليلى تتوب

وها أنا تائبٌ عن حب ليلى فما لك كلما ذكرت تذوب

أسرتها كلمات الشعراء، فاصطفت الدواوين في فراغات غرفتها، ورصفت الكلمات مسارب روحها التي كانت مقلقلة كالدروب التي لم تطرق.
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
اقتاتت الشعر، ونمت روحها عليه، حتى جاء يوم وحاولت أن تكتب قصيدة، جاءت بورقة مسطرة، وردية توشي أطرافها الزهور وثمة طائر يطير فاردا ً جناحيه في وسط الصفحة، وبدأت فكتبت البيت الأول:

دعني أعش في عيناك يوما

مرت ثلث ساعة ولم يأتي البيت الثاني، فغادرت الغرفة وهي تتهم الجوع الذي يهصر بطنها بإيقاف قريحتها، تناولت تفاحة وقضمتها، وعادت إلى غرفتها وعلى شفتيها وأسنانها بقايا لبها وبرودتها.

جلست وكتبت:

إذا كان الجو صحوا أو كان الجو غيما

أعادت قراءة البيتين، أحست بالسخف، صحوا وغيما؟ ما هذا الهراء؟ شطبت البيت الثاني وعادت تفتش في عقلها عن بيت آخر، تشاغلت بتلوين عنق الطائر الصغير، وبتقويم وردة ناقصة في زاوية الصفحة.

تذكرت طفولتها عندما كانت تأخذ الجرائد القديمة إلى غرفتها، وتتلهى بتلوين عيون الأشخاص في الصور، أو في صنع شارب ولحية للحليقين منهم، أو تفتعل حوارا ً أو تعليقا ً طريفا ً، ولا زالت حتى اليوم تضحك من ورقة قديمة عندها يظهر فيها فيدل كاسترو بلحيته الطويلة ولباسه العسكري في إحدى خطبه الطويلة وهو يلوح بإصبعه، وقد رسمت هي فوق رأسه صندوق حوار كتبت فيه ( ترى أي واحد ما يسمع كلامي بجلده ).

انتزعت نفسها من دفق الذكريات وعادت إلى قصيدتها، عفوا ً... بيتها الوحيد، أو لنقل تشجيعا ً قصيدتها التي لم تكتبها بعد، بيت ثان ٍ... بيت ثان ٍ... أممممم... جربت بدأت تأتي بكل الكلمات التي لها قافية الألف، نوما، لوما، قوما، دوما... دوما جيدة... لنرى... أمممم، حسنا ً... دعني أعش في عيناك يوما... دعني أعش في عيناك دوما... أممممم، طيب... يعني يمشي الحال.

بعد نصف ساعة أدركت أنها لا يمكن أن تكتب شعرا ً، ضايقها هذا قليلا ً، فتركت قلمها يجول بلا قيود... بلا قافية ولا وزن، سجلت لحظتها تلك كاملة، عندما سودت صفحتها تلك ذات الطائر المقطوف الرقبة بالحبر، أعادت قراءة ما كتبت، لا بأس... لا بأس البتة... جميل ما كتبته.

وهكذا بدأت رحلتها مع القلم، بدأتها بالخواطر، ثم سلكت درب القصة القصيرة الموطئ، وبعدما دخلت عالم المنتديات والانترنت، ووجدت التشجيع والقراء المتلهفين لكلمات جميلة تدغدغ المشاعر، قفزت إلى كتابة الرواية.

عالم الانترنت قادها جبرا ً إلى سلوكيات جديدة عليها، تحدثت لأول مرة في حياتها إلى شباب مباشرة، كان ذلك طبعا ً على الصفحة البيضاء للمسينجر، كانت تجربة جديدة، بدت لها مثيرة في البداية، قبل أن تصطدم بخيبات أمل متكررة.

عاينت خلال عامها الأول في الانترنت، الصفوف الطويلة من الشباب الذين يفدون أولا ً إلى رسائلها الخاصة بدعوى الإعجاب بأسلوبها في الكتابة ولغتها الجميلة، ثم يدعونها لحوارات أعم وأشمل في المسينجر، قبل أن ينتهي بهم الحال بعرض أرقام جوالاتهم بدعوى تعميق العلاقة وتوطيدها، وحينها كانت تتركهم غير مأسوف عليهم.

تجاوزت الانبهار الأولي بالعالم الذي فتحه لها الانترنت، وخف حماسها، وصارت مشاركاتها مقصورة على منتدى وحيد بدا لها ذو رونق وذو بيئة محببة، ( أقلام بلا اتجاه) كان هو الموقع وهو ما جاء بها في طريق حكايتنا.

علاقة فاطمة أو مجروحة بحمد كانت تتوطد يوم بعد يوم، كان قد أعجبها فيه كل ما هو مغاير لمن حولها، طيبته، بساطته وعدم تكلفه، وضوحه وبعده عن التعالم وادعاء المعرفة، عدم تسلطه وعدم محاولته فرض ذكوريته على كونها الأنثوي، ولكن يدها كانت لا تفارق قلبها خوفا ً من أن تأتي اللحظة المرة، ويعرض رقمه عليها، فتحيله بأسف هذه المرة – كما اعترفت لنفسها – إلى مخزن المعطوبين خاصتها.

عندما مضت الأيام الأولى من التعارف، واستأذنها ذات يوم بأنه لن يعود للدخول في الأسبوعين القادمين بدعوى الامتحانات، أحست بالفراغ يكتنفها لحظتها، كانت قد اعتادت الثرثرة المسائية التي تجمعهما، الثرثرة التي بدأت قصيرة ثم صارت تتمدد، فقررت في لحظة غير متوازنة " سأكتب لك في الأيام القادمة" ندمت بعدما كتبتها بلحظة، كيف سيفكر بي الآن؟ هل سيفقد احترامه لي بعد تهافتي هذا؟ ولكن رد حمد كان " كنت أتمنى أن أطلب منك هذا الطلب ولكني كنت أخشى أن لا يلقى ترحيبا ً منك ِ، إنك لا تعرفين ما يعنى هذا لي... إنه يعني الكثير".

وهكذا صارت رسائلها تصله بانتظام، كانت تحمل أسئلة تقليدية عن الصحة، والأهل والامتحانات، ثم ثرثرة عن يومها وبعض أفكارها، ثرثرة كانت بريئة في مظهرها ومخبرها، ولكنها كانت الأساس لما جاء بعدها.
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
في عصر نفس اليوم اتصل حمد بسعد، كانا قد انقطعا بشكل شبه كامل خلال الشهر الذي فات، وكان حمد يستشعر شوقا ً كبيرا ً إلى سعد، سعد بثقته وغروره، سعد بغرابته وتفرده، سعد بفلسفته وأفكاره، كان يستعيد لحظات خاطفة من لقاءيهما اليتيمين وهو يسمع دقات الهاتف من الجهة الأخرى، قبل أن يتسرب له صوت سعد المرحب:

- أهلا ً... أهلا ً.

- السلام عليكم.

- وعليكم السلام... هلا والله... وين الغيبات يا كافي؟ عسى منتب زعلان علينا؟

- والله مشتاقين... لكن تعرف الامتحانات وغثائها، الله يعين بس... وأنت وشلونك؟ بشر عنك عساك مرتاح؟

- الحمد لله... بخير ونعمة ما نسأل إلا عنكم.

- الله يسلمك... أ...

طافت بهما الحكايات، وصارا يردان على ويصدران عن كل ما يربطهما أو يهمهما، وعندما كل الحديث في المسافات بينهما، وتباطأ كتباطؤ أنفاس الناعس قال سعد:

- أشوفك الليلة على المسينجر؟

- لا... لا... مشغول اليوم... بكرة إن شاء الله.

- خير إن شاء الله... في أمان الله.

- في أمان الكريم.

هيه يا سعد... الليلة كلها لها، لا ارتباطات لدي اليوم إلاها، ليس اليوم يومك يا سعد، فشوقي لها ليس كشوقي لك، عرفتك قبلها ولكني فهمتها قبلك، تحدثت معك قبلها ولكنها فتحت لي قلبها قبلك، لا يا سعد... ليس هذا يومك.

* * *

نفس اليوم/ عندما ازدهى الليل بحلله القاتمة.

قدم المسينجر كوارد الماء العذب في الهجير المعذب، قدمه كالراحل الذي تلف العيس تحته أعناقها إلى رائحة الديار فيصبرها بالشدو والاصطبار، قدمه مجردا ً من التساؤلات ومن الوساوس، قدمه معترفا ً بأنها لم تعد مجرد مجروحة، وبأنها الحديث بينهما لم يعد مجرد محادثة.

كان قد وصل إلى نهاية الهواجس، عبر الخط المنصوب بين الهاجس والواقع، وقرر أين يقف، توقف عن تبديل المعاني وعن الاستعارات اللفظية، واعترف بكل بساطة أن هناك رباطا ً قلبيا ً يشده إليها، ليس حبا ً ولكنه ليس صداقة أيضا ً، وكان سؤال الحب قد أقضه أياما ً، وأوجعه لياليا ً متطاولات، ولكنه اقتنع في النهاية أنه لا يمكن أن يكون حبا ً... ولو كان فهو ساذج لا محالة.

سمها ألفة... تآلف... محبة... استلطاف... توافق... سمها ما شئت... من قال أصلا ً أننا وضعنا كلمات كافية لمشاعرنا الداخلية، إن اللغة التي نستخدمها لوصف تفاعلاتنا النفسية لازالت قاصرة في النقل، كيف تصف شعورا ً هو خليط من الأمل والخوف والنشوة والحزن اللطيف والسعادة، أي كلمة تجمع هذا كله وتجمله؟

ثم جاءت... تحمل هي بدورها بين جوانحها أملا ً أكبر من أمله وخوفا ً يفوق خوفه وحزنا ً يفوق حزنه وسعادة تفوق سعادته، وتحمل أيضا ً حكايات وكلمات وأسئلة وتساؤلات.

مرت ساعة... ثم أخرى... نبهها إلى فوات وقت نومها والعمل الذي ينتظرها في الغد، فرحلت وهي إلى البقاء أرغب، وبقي هو وحيدا ً... لا يسامره إلا بقايا كلماتها...
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
(( حرك الرماد المتخلف من رسائلها المحروقة بعود صغير، فانقلبت ورقة لم تحترق بالكامل، استطاع أن يلمح فيها عبارة ( فتنطلق روحانا إلى أبواب السماء)، نخسها بعوده ليعيدها إلى الجذوة الراقصة ويراقب حروفها وهي تتلوى وتذوي)).

(( نهض ومشى متثاقلا ً تغوص قدماه في رمال النقرة التي أودع باطنها حبه، دفن هنا أجمل أيامه وولى، حرق هنا كل ما يذكره بها، رسائلها، خصلة شعرها، الكرت المزخرف المعطر، القلم الجاف الذي نقش عليه الحرفان الأولان من اسميهما)).

مقطع من البداية... عندما كانت مجرد بداية.

* * * * * * * * *


الفصل الثامن عشر

(( .... الصمت هو عالمي، هنا أعيش، في هذا السكون التام، ألملم أحزاني وأبكيها وحيدة بلا أدنى همسة، بلا أدنى كلمة مواساة، وبلا أدنى أمل.

أشياء كثيرة أفكر فيها أو أحبها، ولكني لا أستطيع مشاركتها مع الآخرين، لا أستطيع التعبير عن نفسي بشكل طبيعي، فقط بلغة الإشارات القاصرة أو بالكتابة، صار القلم هو الطريقة الوحيدة التي تصلني بالعالم، وصارت عيناي هي الطريقة الوحيدة التي تصل العالم بي.

أطياف وأطياف من الخيالات تزورني في ساعات النهار والليل، ولكن لا شيء منها يبقى وسط السكون، هذا السكون والصمت الطارد للأحاسيس والمشاعر، القاتل، البارد.

هذه العاهة التي ولدت بها جعلتني حساسة جدا ً، سريعة التأثر، يمكن لحرف أو كلمة أن تبكيني، جعلتني أتخيل الأمور المعنوية مادية محسوسة، أتخيل أن الحروف والمفردات تمتلك روحا ً، أن الألم يمتلك شفرة حادة، والجفاء ريحا ً باردة، والاستهزاء وجها قبيحا ً، والكلمة القاسية سوط يشق الهواء بلا نهاية.

يبكيني الشعر، أظل لساعات أعيد ترداد بيت أعجبني في عقلي وأنا لا أكف عن ذرف الدموع الهتانة على خدي الأسيل، نعم فأنا جميلة، فالله سبحانه وتعالى منحني جمالا ً آسرا ً، عينان واسعتان تظللهما أهداب كثيفة، وأنف أقنى، منحني وجه يعزيني في لحظات الألم الطويلة.

كنت أحس بألم عميق، عندما ألتقي بإحدى الفتيات لأول مرة، وأرى شفتيها تتحركان لتكلمني، فأشير بيدي إلى فمي وأذني، فتفهم وتهز رأسها والشفقة تلوح في عينيها، كانت نظرات الشفقة تقتلني، أرجوكم لا أريد شفقتكم، لا أريد تعاطفكم، أريدكم أن تقبلوني كما أنا، أن تنظروا إلى خصالي ولا تعبئوا بعاهتي.

كم من الغافلين عن نعمة السمع، وعن نعمة النطق، لو عاشوا ما عشته وعرفوا ما عرفته، وأحسوا بنعمة الله عليهم، لو أحسوا بألم الفتاة التي لا يمكنها أن تسمع كلمة الحب، ولا أن تقولها، لو أحس بألم الأم التي لا يمكنها سماع كلمة ماما، ولا قولها... لو...))

* * *

مساء الأحد / المسينجر.

مجروحة: وش رأيك؟

ضوء: رائعة... جميلة جدا ً... ومحزنة أيضا ً.

مجروحة: أنا تقريبا ً بخلص الفصل الأول اليوم وبرسله لكم كلكم حتى بكرة في الاجتماع تعطوني ملاحظاتكم.

ضوء: بإذن الله بيعجب الشباب... بصراحة اللي قريته حتى الآن مبدع.

مجروحة: تسلم من ذوقك، بصراحة ما عندك ملاحظات يعني أخطاء إملائية؟ أو نحوية؟ أو في الأسلوب؟

ضوء: ما لاحظت شيء... والأسلوب جميل.

مجروحة: ممتاز، بقرأها للمرة الأخيرة وأرسلها لقلم ولليل....
...
..
.

* * *
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الاثنين/ الساعة الحادية عشرة.

اجتمعوا من جديد، كانت ثلاثة أسابيع قد مرت على آخر اجتماع، والعطلة الصيفية الطويلة قد بدأت رسميا ً منذ يومين، وقد بدءوا يستطعمون النوم بعد أيام القلق والهموم... وبدءوا يستذوقون الراحة بعد أيام الانشغال، وإن هي إلا أيام وسيبدأ الملل بالتسرب إلى دواخلهم، وسيبدأ الوقت كابوسا ً بالنسبة لهم، وسيبدأ مصطلح قتل الوقت مألوفا ً للأسماع، مع أن الوقت أعز وأغلى من أن يقتل، ولكن هذه ليست حكايتنا.
اليوم هم متحمسون ومشتاقون للقاء... كان حمد أول الواصلين في الساعة العاشرة، وبعده بدقائق جاء الليل، تبادلا تحايا وأحاديث بسيطة، حتى جاءت مجروحة قبل الحادية عشرة بعشر دقائق، وقبل تمام الحادية عشرة بدقيقة أو دقيقتين دخل سعد.

بعد السلامات والأسئلة التقليدية استلم سعد أعنة الحوار وبدأ فكتب:

قلم: بالأمس استلمت كما استلمتم من الأخت الكريمة مجروحة صياغتها الأولية للفصل الأول... أرجو أن نكون جميعا ً قد قريناها.

ضوء: أنا قريتها.

الليل: أنا قريتها قبل شوي لأني امس مادخلت على النت وماديرت عنها الا قبل شوي.

( كان حمد يضحك وهو يقرأ إجابة الليل الاستطرادية الحافلة بالأخطاء... والتي لا يهمهم أكثرها... ولكن هذا هو الليل برئ جدا ً... وذو قلب طيب).

قلم: ( وجه ضاحك) ممتاز يعني كلنا قريناها.

الليل: بس انا قريتها مرة وحدة يعني ما امداني توي فاتح الايميل.

قلم: هههههههه، طيب يا أخي حنا ما قلنا سمعها، تكفي مرة وحدة، لا تصير بس نسيتها؟

ضوء: هههههههه، حبيب يالليل.

الليل: لا مانسيتها بس قصدي عشان اطلع ملاحظات.

قلم: ايه لا... ذابحك الإخلاص... اللي يسمعك يقول الحين بتكتب لنا نقد أدبي متكامل بس ما أمداك، ههههههه... شوي شوي يالغذامي.

قلم: المهم... فيه أحد عنده ملاحظات؟ مجروحة، معنا؟

مجروحة: موجودة.

قلم: ما أدري... ساكتة فخفت يكون انقطع معك الاتصال.

مجروحة: لا موجودة.

قلم: جميل... نبدأ فيك يالليل عندك ملاحظات.

الليل: ايه بصراحه الخط صغير وتعبني وانا اقرأه.

ضوء: ههههههههههه.

قلم: هههههههههه، الله يغربل إبليسك وش هالملاحظة، هههههههههه.

مجروحة: ( وجه ضاحك).

قلم: سمعتي مجروحة حسني خطك، يا ناس ذا الآدمي بيذبحني.

قلم: طيب عندك ملاحظة ثانية ( وجه يخرج لسانه).

الليل: لا والله ما عندي ما عند جدتي.

قلم: هههههه، طيب خير... ضوء؟ عندك شيء؟

ضوء: أنا قرأت الفصل وكان جميل صراحة... وأعجبني الأسلوب... واللغة رائعة... أبدعت ِ أختي مجروحة.

مجروحة: الله يسلمك... شكرا ً لك.

قلم: جميل... ضوء... عندك ملاحظات؟

ضوء: لا.

قلم: طيب... أنا قرأت الفصل... وبالحقيقة الأخت مجروحة لا تحتاج إلى شهادة في اللغة الجميلة التي تتميز بها... ملاحظاتي هي إجمالا ً تتعلق بالأسلوب والفكرة المحكية.

قلم: أولا ً... الفصل الأول كاملا ً كان عبارة عن مونولوج داخلي للبطلة... تخبرنا فيه عن حالتها... ونلحظ أن الضمير المستخدم هو ضمير المتكلم... تكمن المشكلة في أن هذا يبعث على الملل للقارئ... ربما تخفف اللغة الجميلة الوضع هنا.

قلم: ولكن تظل المشكلة في أن القارئ عندما ينتهي من قراءة الفصل لا يجد أمامه سوى استدرار عاطفي مبطن... آ... أخت مجروحة أرجو أنه كلامي ما يحمل لك ِ إزعاج... وأن يحل منك ِ محل النقد... فالرواية هذه ستحمل في النهاية أسمائنا كلنا.

مجروحة: لا... تفضل.

قلم: جيد.

قلم: الملاحظة الثانية هي غياب المنطق نوعا ما في النص... وأنا هنا أقصد فيه الغياب الخفي... أنت قلت أختي مجروحة أن الفتاة ولدت بهذه العلة... ألا تجدين من الغريب أن تقول (هذا السكون والصمت الطارد للأحاسيس والمشاعر... القاتل... البارد) كيف تتحسر على شيء لم تجربه ولم يكن موجودا ً عندها ابتداء ً.

مجروحة: عفوا ً لو سمحت لي بمقاطعتك البنت فاقدة النطق والسمع وهذا يحسسه بالنقص عن الآخرين لا تتوقع إنها بتكون بشكل عادي بتكون حساسة جدا.

قلم: أختي كم عمر الفتاة التقديري في الرواية؟

مجروحة: في العشرينات.

قلم: يعني لها عشرين سنة ولا أتأقلمت مع وضعها؟ هذي مبالغة أختي.

مجروحة: ما هي مبالغة، أنت ما جربت هذا الشعور، علماء النفس يقولون أن الإنسان يكون حساس لنقائصه.

قلم: هذا مذهب عالم النفس الشهير ( أدلر) أختي... وهو يقرر فيه أن التفاعل والنشاط الإنساني عبارة عن محاولات متتابعة لتعويض النقص... أختي خليني أقول لك أنت ما جربت هذا الشعور أيضا ً... برأيي المنطق غاب هنا.

مجروحة: يعني؟

قلم: أنا بقول لكم الآن تصوري كيف يجب أن يكون الفصل... وإذا أعجبكم ممكن نعدل في نص الأخت مجروحة حتى يكون مناسب كبداية للرواية.

ضوء: تفضل.

مجروحة: تفضل.

قلم: أولا ً... لا نريد إهراق مشاعر الفتاة قبل لحظة لقائه بحبيبها الشاعر... لا نريدها أن تحس بفقدها إلا لحظة محاولة التواصل مع الشاعر... هي لا تتكلم ولا تسمع... ووسيلتها لتوصيل رأيها الكتابة فقط... وهو لا يرى... كيف تصل إليه؟ هنا نريد لمشاعرها أن تتفجر.

الليل: تفضل.

قلم: ( وجه ضاحك) في الفصل الأول نريد أن نعرض لحياتها الطبيعية... نريد أن نرسم شخصيتها وبيئتها... هواياتها... ربما نعرض جزء من دفتر يومياتها.

قلم: كتابة الرواية ليست مجرد فتح للوورد والكتابة... أو وضع ورقة بيضاء والخربشة عليها... بل هي تصور ذهني في البدء... ثم رسم للخطوط العامة على الورق... ثم بناء للشخوص بشكل متأني وواقعي... ثم الشروع في الكتابة... نحن قمنا بالخطوة الأولى... والثانية... لكنك أختي مجروحة استعجلت ِ وقفزتي الخطوة الثالثة إلى الخطوة الرابعة... وهذا الذي أضعف السياق.

مجروحة: طيب.

قلم: عذرا ً... أرجو إنك ما تكوني زعلت ِ أختي من النقد... لكن نحن هنا لتوجيه بعضنا... وعلينا نبذ المجاملات والتجرد للحق.

مجروحة: ما زعلت... ممكن تكمل أخوي.

قلم: قلت لكم رأيي هو أن نؤجل هذه المشاعر الجميلة إلى النهاية عندما لا تستطيع الفتاة توصيل كلماتها إلى شاعرها.

قلم: تحبون أكتب الفصل الأول برؤيتي ثم أبعثه لكم؟

ضوء: يكون أفضل حتى تتضح لنا الفكرة أكبر.

قلم: طيب... بكتبه وبرسله لكم قبل الاثنين القادم... فيه أحد عنده إضافات؟

الليل: لا سلامتك.

مجروحة: لا شكرا ً.

...
..
.

* * *

الاثنين / والليل يتخفف من أوشحته.

جالسا ً أمام الشاشة التي خبت أضوائها، تساءل - وهو يرقب الليل المنسلخ - هل غضبت مجروحة؟ هل جرحت؟ كانت أول الراحلين عندما انتهى الاجتماع، وتبعها الليل فيما بقي سعد يسامره قليلا ً، كانت أنفاس حمد حينها مبهورة بصراحة سعد، جرأته، قدرته على طرح فكرته والدفاع عنها، معجب بالفكرة نفسها وبمنطقيتها، ورغم الألم الداخلي الذي خلفته ردود مجروحة الضعيفة في الحوار وهروبها السريع فإن حمد لم يجسر أن يسأل سعد، لم َ؟ لم َ لم يكن ألطف؟ لم َ لم يرفق بقلبها ومشاعرها؟ كان يخشى أن يسأل أن يرد عليه سعد بسؤال يلقي بظلال على علاقته بمجروحة.

هذه العلاقة التي حار في تصنيفها، هذه العلاقة التي تمنحه أجمل ساعات يومه، ثم تهاجمه في أطراف الليل والنهار، التي تجذبه إلى قيعان البحار ليتسلى بفتق المحار، وتلمس الأحجار، ليندس بين شعب المرجان، ثم في لحظة يدركه الغرق، فيظل يغرغر الماء المالح، ويحط رأسه على الرمل الناعم الذي يغطي القاع.

هل يوجد علم لتصنيف العلاقات؟ أممم... لا أظن؟ إذن ماذا يفعل كل هؤلاء العلماء؟ لم َ لا يضعون علما ً قائما ً بذاته يتناول العلاقات الإنسانية وتشابكها... علاقة الأب بابنه مثلا ً... ما حدودها؟ كيف نميز الأب الصالح من الأب الطالح؟ لماذا ننتظر سنوات حتى نرى الناتج؟ فإذا فسد الولد... قلنا سوء تربية من الأب... وإذا صلح قلنا قد حسنت التربية؟ هذا في علم التخطيط وفي عرف المخططين خطأ فاحش، والإنسان لا ينشأ مصنعا ً لأي شيء كان حتى ولو كان لأربطة الأحذية إلا ويقوم بدراسة كاملة ويكون لديه تصور عن المنتج النهائي والمواصفات المطلوبة والعوامل التي يجب توفيرها للنجاح، سبحان الله... فلم لا نخطط للأهم؟ لم لا يضع الشاب خطة ودراسة قبل الزواج؟ فيختار الزوجة بعناية... الزوجة التي تسعده وتسعد أولاده؟ لم لا يقوم الشاب بتأهيل نفسه قبل الزواج؟ هل سمعتم بشاب أو فتاة قام بتأهيل نفسه قبل ذلك؟ قصارى الجهد هو أن يفقد أو تفقد بضعة كيلوجرامات... وهو تأهيل بدني... ولكن أين التأهيل العاطفي؟ التأهيل النفسي؟ التأهيل الأخلاقي؟ للأسف لا يوجد... لذلك يحمل الشاب نقائصه إلى بيت الزوجية... وتحمل الفتاة أخطائها إلى القفص المذهب... في مثل ذلك البيت ما المتوقع أن ينشأ؟ ربما علاقة صحيحة أو علاقة مضطربة تنتهي بالانفصال أو وهو الغالب الأعم... علاقة تعايش تفتقد الحب... الكلمة الجميلة... والأمن النفسي.

ما الذي جاء بي إلى هنا؟ كنت أفكر في مجروحة... ما دخل العلاقات هنا؟ والزواج؟ لأركز أفكاري يكفي شرودا ً واستطرادا ً جاحظيا ً، مجروحة... ماذا تفعلين الآن؟
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الثلاثاء / عندما لا يعود للوقت معنى.

عادت اليوم... عادت بعدما قضى حمد ساعات وهو يستجدي المسينجر المهجور... ساعات وهو يتخبط في الملل والأسئلة... حتى عندما دخل سعد لم يخفف هذا عنه... بل ربما زاد الأمر سوء ً... لم يرد أن تأتي لتجد سعد هنا... كان يريد أن يستل غضبها... وألمها بنفسه... هل غضبت حقا ً؟ أم أنه كان انفعالا ً وقتيا ً.

كان تائها ً وسعد يحدثه في أمور عدة، كانت إجاباته غائمة حينا ً، وباردة حينا ً آخر، والانتظار قد اقتعد كاهله حتى كاد أن يقضه، ثم جاءته رسالة، فتحها بتراخي وكاد ينقلب من على كرسيه، كانت من مجروحة وكان نصها:

( أنا موجودة على المسينجر، وعارفة إنك موجود مع قلم، أنا مسوية حظر لكم، بفتح الحظر عنك بس لا تقول لقلم، ما أبي أكمله)

لحظات ثم بزغت صفحتها الخاصة أمامه وعليها يتألق السلام، رده بمثله، وهو ينقل عينيه بين الصفحتين أمامه صفحة سعد وصفحة مجروحة، كتب:

(* صفحة مجروحة *)

ضوء: كيف الحال؟

مجروحة: الحمد لله بخير.

ضوء: ليه ما تبينه يدري بوجودك؟ زعلانة؟

مجروحة: ما شفت كيف كان يعاملنا أمس؟ غرور وتعالي ولا كأن شيء عاجبه.

ضوء: وااااو... من جد زعلانة.

مجروحة: أنا ما همني هو ولا فكرت فيه، لكن أنا أكره شيء في حياتي السيطرة والناس المغرورة اللي شايفه نفسها وعلى ايش يعني؟

ضوء: بصراحة... أنا أمس استغربت طريقته... يعني اوكي عندك ملاحظات قلها بس بأسلوب مو بالشكل الصدامي هذا.

مجروحة: أنا كنت ماسكة نفسي والا كنت بنفجر فيه، وكل شوي يقولي اختي مجروحة اختي مجروحة وهو طايح فيني شرشحة.

(* صفحة سعد *)

قلم: وين الناس؟ نمت؟

ضوء: لا... ههههه... قاعد أقرأ.

قلم: يا سلام... وايش تقرأ أفدنا أفادك الله.

(* صفحة مجروحة *)

ضوء: لا شوفي... هو كان يقدم رأيه أمس وانتقاداته ولكن الأسلوب ما كان جيد.

مجروحة: أي انتقادات... بالله وش طلعت من كلامه أمس بغير شوفوني أنا أحسن واحد بالعالم تراي ناقد وخروا عني.

(* صفحة سعد *)

ضوء: الفصل اللي كتبته مجروحة... قاعد أدرس انتقاداتك عليه.

قلم: جميل وطلعت بأيش؟

(* صفحة مجروحة *)

ضوء: ههههههه... يا ستار... والله مرة شايلة عليه.

مجروحة: بالله هذي انتقادات؟ أنت قريت الفصل، وقلت لي أنه حلو، وش معنى لازم ما نرهق مدري نهرق عواطف الفتاة، وان مافيه منطق، وكيف الفتاة تعودت على الصم والبكم؟ بالله عليك مو كل يوم هي تشوف حولها الناس طبيعيين ويتكلمون، مو هذا يذكرها كل يوم باللي فقدته؟ وبعدين انا كتبتها بشكل قصة حياتها، يعني أنت لما تكتب عن شيء صار لك قبل سنوات تكتب عن آلامك وقتها مو شرط أنها لازالت تولمك يمكن راحت الالام بس بقت الذكرى.

ضوء: كلام سليم.

(* صفحة سعد *)

قلم: ألو؟

ضوء: كنت عنيف أمس شوي، يعني بصراحة قطعت أبو الفصل.

(* صفحة مجروحة *)

مجروحة: طيب، ليش يتفلسف ويسوي نفسه العقاد والا الرافعي.

ضوء: وجهة نظر يعني وما أتوقع أنه كان قاصد شيء.

مجروحة: الا يقصد اصلا هو معروف بالمنتدى انه مغرور وشايف نفسه ويحذف مواضيع على كيفه وهو اصلا هاجم الفصل عشان اني كتبته قبله وهو كان يبي يكتب كل شيء على كيفه، يعني كاننا مالنا راي ولا شيء بس نسمع كلامه.

(* صفحة سعد *)

ضوء: أح... أح كل هذا... ما اتوقع المسالة توصل لكذا.

( عض حمد على شفته السفلى بقوة، عندما تنبه إلى أنه وضع العبارة في المكان الخطأ، تساءل ماذا سيقول سعد الآن؟ انتظر لحظات ثم ظهرت أسطر سعد)

قلم: لا عنيف ولا شيء... كان اجتماعنا بالأمس لمناقشة الرواية... وحتى تظهر الرواية بشكل جميل... على كل واحد منا أن يكون واضحا ً صريحا ً... المجاملات المفروض تخلصنا منها من اللقاء الأول... وبعدين الفصل بين يديك أقرأه كاملا ً... وتذكر رأيي... هل تحس فعلا ً بمنطق في فتاة تتشكى من أمر ولدت معه؟ هل من المنطق أن تقول مشاعرها كلها في الفصل الأول... ماذا نبقي للفصول المتبقية؟

(* صفحة مجروحة *)

ضوء: هههههه، مصيبة رديت عليه هناك برد المفروض يكون لك، بيصير موقفي بايخ الحين.

مجروحة: هههههه، دبر نفسك بس لا تقول إني معك هنا.

(* صفحة سعد *)

قلم: حمد... أنا فكرت بعد ما طلعت أمس من المسينجر أنه ربما كنت حاد شوي وخصوصا ً إنها واضح تأثرت... بس أنا ما أخطأت في شيء... والاثنين الجاي خلها تنقد الفصل اللي بكتبه... الله يقويها.

ضوء: الله يعين... نشوف الاثنين الجاي وش بيصير.

(* صفحة مجروحة *)

مجروحة: وش صار؟

ضوء: شكله ما انتبه... لأنه متحمس... يقول الاثنين الجاي خلها تنتقد الفصل اللي بأكتبه.

مجروحة: والله لأوريه... لأحاسبه حتى على الهمزات والفتحات والكسرات.

ضوء: هههههههه... الله يعينه، طاح بيدك ويا ويله.

عاد إلى صفحة سعد ليجد مكتوبا ً فيها:

قلم: إلا على فكرة ورى ما تسير علينا في الشرقية؟ تجي لك يومين في الخميس والجمعة؟ أنا وحداني بالبيت... الأهل مسافرين... منها نشوفك... ومنها نوريك الشرقية مضبوط... مو مثل جيتك الخطافية المرة اللي فاتت.

لم يدر ِ بماذا يرد على هذا العرض... كانت نفسه تدعوه إلى القبول، ولكن كانت الصعوبات التي تكتنف مثل هذه الرحلة تبدو بلا نهاية، يحتاج إلى وقت آخر للتفكير، أخذ نفسا ً عميقا ً ثم كتب:

ضوء: الله يجزاك خير... خلني أفكر في الموضوع وأرد عليك بكرة.
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الفصل التاسع عشر

وصل إلى الرياض الآن... فلمعت أنوارها في عينيه، لحظات... ويخرج من قلب الظلمات إلى الأنوار التي مسحت معنى الليل في هذه المدينة التي لا تنام كثيرا ً.

لم يكن مستعدا ً لدخولها، فركن سيارته في محطة على طرفها، ونزل يجر قدميه إلى دورة المياه المتوارية خلف محل ( بنشر) قذر... حيث الهباب والزيوت يغطيان كل شيء، صدمته العفونة حالما دخل وكادت قدمه تزل على الأرضية التي أسودت مما تراكم عليها، فدار على عقبيه وفر، قصد البقالة الكالحة الضيقة، وسحب علبة ماء باردة، نقد البائع ثمنها، ثم خرج... واقفا ً إلى جانب سيارته، دلق الماء على وجهه غير عابئ بثيابه، وارتجف من البرودة التي تخللت عظامه، شرب شيئا ً مما بقي في العلبة، ثم جذب بضعة مناديل بعجل فتمزقت بين يديه... مسح وجهه بلا اهتمام، ثم عاد إلى مقعده... وربض هناك.

في عينيه تلمع أنوار الرياض من خلف زجاج السيارة المتسخ... رياض... يا رياض... كم فيك ِ من الحيوات؟ كم يتقلب تحت سقوفك الآن من بر وفاجر، كم تخفي جدرانك ِ من باك ٍ وضاحك، يا رياض... كم فتاة فيك الآن غارقة في الحلم؟ كم شاب فيك غارق في التيه؟؟ وكم فيك ِ من شاك ٍ يتوجع؟ وروحا ً تقبض؟ كم يقضى بين جنباتك ِ الآن من الأفعال؟ وكم يدبج من الأقوال؟ كم كلمة حب تخالط هوائك ِ؟ كم صفعة ترن في ميادينك؟ يا رياض... لم َ نحبك ِ حتى لا نكاد نخرج منك ِ؟ لم نكرهك ِ حد الفرار منك ِ؟ ما الذي فيك ِ عن غيرك؟ يا رياض... يا عجماء... كم لسانا ً لك ِ؟ يا شلا... كم يدا ً فيك ِ... كم قلبا ً؟ أيتها المدينة التي بلا قلب.

رأى حمد نفسه وقد انفصل عن الواقع في تلك المحطة التي بلا اسم... فصار كطائر كبير، وطار يجوب شوارع الرياض، يراها تحت عينيه، يرى السيارات التي تطوي طرقها... بلا هدف، يرى الناس الذين يدبون في أرجائها، يرى ما في البيوت كأن الحجب قد زالت عن عينيه... فصار يرى كل شيء، وعيناه تبحثان... عن امرأة... تنتظر... رجلا ً طويلا ً على خده أثر قديم.

* * *

عاد إلى البيت بوجه غير الذي خرج به، عاد يطوي بين جنبيه حكايات، ومشاهد وأصوات، يطوي آلاما ً... أحزانا ً، عاد وقد ذاق المعرفة حتى ود أنه لم يعرف... لم يجرب... لم يسمع.

سلم على أهله بخفوت... وأجاب على أسئلتهم، وتبسم في وجوههم حتى آلمه فكه، ثم لاذ بغرفته، ألقى عنه ملابسه التي التصقت بجسده، ليغوص في بركة الماء الدافئ التي ملأت البانيو... وهناك حيث لا يسمع إلا صوت فيضان الماء وتساقطه على الأرض... هناك أراح رأسه على الحافة... وأغمض عينيه تاركا ً بخار الماء يتسلل إلى أنفه... والذكريات تتحدر عليه كتحدر صخور الأعالي.

* * *

تردد كثيرا ً... وهل هذا مستغرب؟ لن نقف هنا طويلا ً، مر حمد بالدورة الطويلة من الوساوس والهواجس التي يمر بها دوما ً قبل اتخاذ قرار، ثم قر عزمه في النهاية على قبول الدعوة والسفر إلى الشرقية لملاقاة سعد، لا يعلم لم َ؟ ولكن كان لديه نوعا ً من الحدس بأن هذا اللقاء سيحمل له جديدا ً، فآخر لقاء جمعهما انفجر فيه سعد وأفضى بالكثير، وهذا اللقاء ربما يحمل له أجوبة لأسئلته الكثيرة.

كان عليه أولا ً أن يكذب، فكيف سيسمح له أهله بالسفر هكذا وحيدا ً ليلقى شخصا ً تعرف عليه في الانترنت؟ سعد بالنسبة لهم لا يعني شيئا ً أكثر من اسم يلفظ، فلذلك قرر أن يوفر على نفسه رواية الحكاية كاملة، وأن يسلك الطريق السهل، أدعى أنه سيسافر مع أصدقائه إياهم، ( شلة البران ) كما تسميهم هيلة، طبعا ً لا بد أن تؤدي أمه دورها الطبيعي في الاعتراض ( وشوله وأنا أمك الواحد يعطل عشان يستريح مهوب عشان يهجهج... إلخ...)، كان يعلم أنها ستضع المسألة في النهاية بين يدي أبوه الذي سيضيق عينيه قليلا ً، ثم سيقول بصوته الحاد ( خير إن شاء الله... انتبه لنفسك... ولا تسرعون بالطريق)، وهذا ما كان... وهكذا وجد نفسه صباح الخميس يطوي الطريق وحيدا ً كما المرة الأولى.

مرت في ذهنه أطياف الطريق، فسعل وحرك رأسه لتزلق بضعة قطرات من شعره، عبرت جبينه قبل أن تتسلل عبر حاجبيه إلى عينيه، مسح وجهه بقوة داعكا ً عينيه، ثم عاد للوضع السابق، وعادت الذكريات من جديد.

* * *

(( أتذكر عندما قلت لك أن الرياض بمثابة ملاذ فكري لي... كان ذلك نصف الحقيقة)).

* * *

(( رباه... ما أصعب هذا... حضوري نفسه كان صعبا ً، فما بالك بما يطلبه مني؟)).

* * *

(( من يومها لم يعد شيء كما كان... كرهت كل شيء... كرهت الجروح القديمة، أصبحت أحس بالغثيان عندما أرى أثرا ً لجرح قديم)).

* * *

(( كم أحتقر ضعفي، استسلامي للألم، وقبلها الأمل، أحتقر مشاعري هذه... كل ما أتمناه هو أني رحلت... عندما حانت اللحظة المناسبة رميت بكل شيء وراء ظهري... ورحلت... ولكني لم أفعل)).

* * *

((عدني مجنونا ً... مهووسا ً... أي شيء يعن لك... ولكن هذه هي الحكاية... بل نصف الحكاية... أما باقيها فسآخذه معي إلى تربتي)).

* * *

وصل الخبر كما وصلها في ذلك اليوم البعيد، والآذان ينطلق من المساجد، أو هو يتوهم ذلك، بعد الصلاة أخذه سعد إلى مطعم قريب وهو يعتذر بفراغ البيت لسفر أهله كما أخبره قبلا ً.

كان مطعما ً فاخرا ً... يقع في الطابق الثاني لعمارة جديدة ذات إطلالة على البحر، فتح لهما الباب عاملا ً فلبينيا ً بابتسامة دافئة، وارتقيا درجا ً حلزونيا ً... التفت عليه نباتات متسلقة... تساءل حمد أهي طبيعية؟ لمسها فبدت ذات ملمس غريب، كان المطعم باردا ً من الداخل، وذو ألوان قاتمة، ربما أضفت عليه كآبة لا معنى لها رغم الفخامة التي تتبدى في كل تفصيلة فيه.

انتحيا ركنا ً منه، ليجاورا الزجاج الملون بالأزرق، حيث ترتمي الأمواج تحت أقدامهما، كانا أول زبونين لهذا اليوم، على المائدة بينهما المغطاة بغطاء أحمر تناثرت أدوات المائدة، وشمعدان ضخم يحمل شموعا ً سكرية اللون، فكر حمد بسخرية أن هذا كاد يصير موعدا ً غراميا ً، لم يعد باقيا ً إلا أن يمسك سعد بيده وأن ينظر في عينيه ليقول ( حمد... أنا بحبك)، كادت تفلت منه ضحكة لهذا الخاطر السخيف.

جاءهما نادل عربي طويل القامة، طلب سعد منه عصيرا ً ذا اسم غريب، ونظر لحمد الذي تردد ثم طلب عصير برتقال، قال سعد وهو يشير لمجموعة طاولات توسطت المكان:

- غداءنا سيكون من هذا البوفيه المفتوح، قم خل نشوف وش السلطات اللي عندهم.

نهضا وقصدا طاولة على الطرف، تراصت عليها أطباق من السلاطة والمقبلات، مضى سعد يملأ صحنه بخبرة وتذوق، فيما كان حمد حائرا ً كان من نوع الناس الذين لا يجيدون التعامل مع البوفيه، تحيره الاختيارات الكثيرة، ويستحي أن يملأ صحنه، ولذلك يخرج دائما ً من هذه البوفيهات جائعا ً.

عادا إلى طاولتهما بصحن مليء، قال سعد وهو يدير شوكته في الصحن ليقتنص شطر زيتونة فارة:

- وش الأخبار؟ وش أخبار روايتك؟ ما كتبت الفصل الثالث؟

- ولا حرف.

- ههههه... ليه؟

- انشغلت بالامتحانات وبعدها بالرواية الجديدة، يعني خل الأمور تستقر... وبعدين أفكر بالكتابة.

- أممممم ( هذه كانت من سعد الذي كان قد حشا فمه بخس مغطى بجبن غريب الشكل).
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
تحرك حمد قليلا ً... فعاد صوت الماء المتساقط يتردد وسط سكون الحمام، التقط نفسا ً عميقا ً ثم غاص في الماء بعينين مفتوحتين، في أذنيه أصبح الهواء محجوزا ً في جيب هوائي بين الطبلة والصيوان، فبدت الأصوات مضخمة... كأنها أصوات الذكرى.

ظل يحدق عبر الماء إلى السقف الذي بدا مترقرقا ً، أحس بانفصال عن العالم، أصبح كل شيء مجرد ذكرى، أغمض عينيه، وأحس كأنه ضائع في الفراغ، ضاق به النفس فأخرج رأسه من الماء، وأراحه على يده المنصوبة وهو ما يزال مغمض العينين.

بعد المطعم الفاخر والأكلات البحرية التي أغرقه فيها سعد، والحلوى التي أصر على تذوقها، خرجا يتهاديان بالشبع والانتعاش، وقصدا منزل سعد... ما زال كل شيء على حاله، الممر الضيق ذو الحجارة بلون الرمل، الحديقتان، النخلة اليتيمة، حتى الكرسيان ما زالا هناك.

قصدا وكر سعد مباشرة، حيث كتبه ومكتبه، تركه سعد وهو يرحب به بكلمات سريعة وغاب داخل البيت، وقف حمد يجيل عينيه في الكتب، ويتأمل المكتب الصغير والكراسي الأنيقة.

عم ماذا تكلما في ما تبقى من العصر؟ لا يذكر الآن، كانت مجموعة مواضيع مترابطة، من المنتدى إلى الرواية إلى بعض القضايا الفكرية، وكانت الراية حينها بيد سعد، ولكن التفاصيل غابت عن ذهنه الآن، كل ما يذكره أنهما ظلا يتحدثان ويرشفان الشاي الذي صنعه سعد حتى أذان العصر.

أما ذلك العصر فكان جميلا ً، اصطحبه سعد إلى الشاطئ حيث استأجرا مركبا ً بحريا ً، بدا أن سعد يعرف صاحبه، انطلق بهما المركب إلى عرض البحر في المسار المرسوم له، وهما جالسان على كرسيين وضعا في مقدمة المركب، يتأملان صفحة الماء التي تنشق تحتهما في رفق، ويتحدثان حتى مل الحديث منهما.

عادا على هدي أنوار الشاطئ المتلألئة عندما حل الظلام ، حدث حمد نفسه حينما حط على الشاطئ بأنها أجمل رحلة مر بها قطعا ً، صليا المغرب ثم انطلقا يتمشيان في شوارع المدينة المزدحمة، كان الحديث قد انعقد بينهما وفاض حتى صارت المواضيع المشتركة والمفتوحة بينهما بالعشرات، تحدثا في كل شيء وأي شيء، وكان الوقت هو آخر ما يسألان عنه.

* * *

لا يذكر متى حدث ذلك؟ ولا كيف حدث؟ ربما كانت الساعة قد جاوزت الحادية عشرة والنصف حينها، كل ما يذكره هو أنهما كانا جالسين على رمال الشاطئ البيضاء وتحتهما سجادة صغيرة، والهواء يهب عليلا ًَ جميلا ً، محملا ً برطوبة خفيفة، تجعل ملمس كل شيء زلقا ً، والبحر هادئ... رفيق بأمواجه وبالرمال عند قدميهما، وكان السكون يكمل ما تبقى من اللوحة ليخلق جوا ً آخر... جو البوح.

كان سعد يتكلم حينها في أمر ما... ثم صمت وأطلق نظره للبحر وقال:

- أتعلم؟ لقد قلت لهذا البحر ما لم أقله لمخلوق أبدا ً... لو كان لهذا البحر لسان لحكى لك قصتي... كنت آتي هنا كثيرا ً... آتي وأجلس على الأرض مباشرة... أدفن قدمي في الرمل... وأظل أتحدث كمجنون... كانت تمر الساعات... وأن أهمس له بكل شيء وأي شيء... لم يصم أذنيه ولم يتأفف... عندما فعل الآخرون... رويت له كل شيء... آلامي... أحزاني... سجلت فيه يوميات حبي، وحكاية انهياره، كان صديقا ًَ حانيا ً، استمع لي صابرا ً... وعندما انتهيت... تقبلني بكل أخطائي... ضمني بذراعيه... بأمواجه... وغسل بملوحته ملوحة الدمع الذي بقي في محاجري.

سكت قليلا ً ومضى يقلب وجهه في صفحة السماء كأنه يبحث عن شيء ما، فيما كان حمد صامتا ً تعتري بدنه ارتجافه قوية، وفي جوفه يتردد هتاف ( رباه... لقد دنت لحظة الحقيقة... لحظة المعرفة... لحظة الإجابة على الأسئلة... سيفيض سعد كموج مكتسح).

مضت ثوان ٍ... ولم يخيب سعد ظنه.

- كنت طفلا ً... أحمل قلب طفل... جسد طفل... ملامح طفل... ومشاعر عاشق... وكانت هي ملاكا ً... جنة إنسانية... جمالا ً خالصا ً... قلبا ً خالصا ً... كانت كل ما تغنى به الشعراء... كانت القصيدة التي لم ولن يكتبها أحد... لأنه أعجز من ذلك... كانت الوردة التي تبقى عندما يحط الخريف بقية الورود... كانت حلم الطفولة الطاهر الذي لم تدنسه رغبة أو مصلحة.

- كنت طفلا ً... يبكي عشقا ً عندما كان بقية الأطفال يبكون ألعابا ً... أو حلوى... كنت طفلا ً... يرسم وجهها كل يوم على حواشي كتبه... وعلى بياض دفاتره... على صعيد الرمل الذي تسويه يده الصغيرة... وعلى صفحة الحساء الذي لا يعجبه عله يكسبه حلاوة وقبولا ً.

- كنت طفلا ً... اكتشف المعاني في ابتسامتها... لمعة عينيها... ضحكتها... عندما كان بقية الأطفال يكتشفون الأشياء حولهم.

- كنت طفلا ً... تعلم صياغة الحب في السن التي يتعلم فيها أترابه صياغة اللفظ... تعلم التفكير في السن التي يلقن فيها أقرانه التدبير.

- كنت طفلا ً... ولكنها لم تكن كذلك.

- كانت تدرج في الوقت الذي كنت لا أحسن فيه الجلوس... كانت تزهو بملابسها وأنوثتها في الوقت الذي كنت فيه أتلقى كلماتي الأولى... وكانت قد بدأت بالشرود والهيام في الوقت الذي كنت فيه أتأتي الكلام.

- كانت جارتي... لا يفصل بيننا إلا جدار... وأحلام صغيرة... وكنت أزورهم مع أمي... بقلب متوثب... وأجلس هناك في الطرف... أرقبها... أرقب بسماتها ورنين ضحكاتها الصافية... وأنتظر الوقت الذي تسحبني فيه من يدي إلى غرفتها... لتمنحني شوكولاتة... ومجلة ملونة... وقبلة صغيرة على خدي.

- كنت أعود في كل مرة... بحب برئ صغير... وأوراق مدسوسة بين ثيابي... قد دونت عليها بخطي الوليد... ما أحسبه أبيات شعرية... كنت أكتبها بخلاصة العاطفة في... فتتلقفها هي بإعجاب وتقرأها بابتسامة... ثم تتناول وجهي بين راحتيها... وتتأمل عيني وهي تردد ( الله ما أحلاك... إذا كبرت بتصير شاعر كبير).

- كنت طفلا ً... ولم يكن أحد يعبأ بأحلام الطفولة... أو يلقي لها بالا ً... وكان حبا ً... أكبر من قياس قلبي... وأحلامي... وكانت عاطفة... أتعثر فيها بثوب العشق الطويل... في ذلك الدرب الموحش.

- ثم كبرت قليلا ً... أدركت ذلك عندما طردتني أمي... وهي تسحب أختي إلى بيتهم... ( عيب عليك... خلاص أنت صرت رجل وصارن الحريم يتغطن عنك... يالله لا تلحقني وإلا ترى بعلم أبوك).

- لا أريد أن أكون رجلا ً... رباه... لم أستعد لذلك... لا أعرف كيف أعيش بين الرجال... عمرا ً عشته بين النساء... لا أريد أن أتركها... لا أريد أن أبتعد عنها... لا أريد أن لا أعود أرى ابتسامتها... وأسمع ضحكتها.

- ذلك اليوم الكئيب... وجدت في ظلام غرفتي ملاذا ً... وبكيت... بكيت كل شيء... الطفولة الموءودة... والرجولة الوليدة... بكيت قصائد الحب التي لم أكتبها... وكلماته التي لم أقلها... بكيت الحرمان والفقد... وبكيت أني لم أخبرها بقلبي
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
- كنت طفلا ً وظللت كذلك في ثياب الرجال... أغذي نفسي بالوهم كل يوم... حتى جاء اليوم الذي تداس فيه الأماني والأحلام الغبية... اليوم الذي ترتع فيه الآلام في مرابع طفولتي وشبابي.

- زفت إلى آخر... بكل بساطة... هكذا... أحلامي... كل شيء جميل ربطته بها... صار بين يدي آخر.

- ومضيت مسحوبا ً من أبي وأخوتي إلى هناك... كان الكل فرحا ً... يضحكون... ويتكلمون... فيما كنت أنا أذوي في ركن... ويد أخي بدر على يدي... كان هو الوحيد الذي عاش حكايتي... كما عشت أنا حكايته... هو الوحيد الذي كنت أحكي له بانطلاق وقائع حبي... وأحلامي المجنونة... هو الوحيد الذي كنت أتبادل معه الحكايات كما نتبادل الملابس والأشياء... لم يلمني يوما ً على جنوني... تقبلني كما أنا.

- جلست في ذلك الحفل صامتا ً... ذاهلا ً... انكفأت إلى الداخل... لأعالج نفسي... ولكنهم لم يتركوني... جذبتني يد أخي الأكبر من ركني ويده الأخرى تدفع إلي ( دلة ضخمة)... رباه... ما أصعب هذا... حضوري نفسه كان صعبا ً، فما بالك بما يطلبه مني؟

- ثم رأيت العريس... طويلا ً... كأنه يشرف على الجمع من عل ِ... على خده أثر جرح قديم... ندبة صغيرة... متجللا ً ببشت أسود... يبتسم ويصافح الناس في هدوء.

- من يومها لم يعد شيء كما كان... كرهت كل شيء... كرهت حفلات الزواج... كرهت الجروح القديمة، أصبحت أحس بالغثيان عندما أرى أثرا ً لجرح قديم... تساءلت في وقفتي تلك... هل ستمر يدها على هذه الندبة؟ هل ستلصق خدها بها؟ كدت أسقط... وضعت الدلة على أقرب شيء بارز... وفررت.

- كم أحتقر ضعفي، استسلامي للألم، وقبلها الأمل، أحتقر مشاعري هذه... كل ما أتمناه هو أني رحلت... عندما حانت اللحظة المناسبة رميت بكل شيء وراء ظهري... ورحلت... ولكني لم أفعل.

- ثم مات بدر... قطفت روحه سيارة مسرعة... في أرض أخرى... سيارة اقتحمت سيارته على حين غفلة... وحطمت صدره الذي طوى حبه... وحكايتي.

- عندما وقفت على قبره... أيقنت أن كل شيء دفن هناك... كل ما تبقى لي ذهب معه... كل اللحظات الجميلة... أيقنت أني فقدت قلبا ً مفتوحا ً لي... قلبا ً أودعت فيه كل شيء... وفكرت أنا أخطو خارج المقبرة... أن أجزاء كبيرة مني دفنت هناك.

- أتذكر عندما قلت لك أن الرياض بمثابة ملاذ فكري لي؟ أتذكر؟ كان ذلك نصف الحقيقة... هي ملاذ عاطفي أيضا ً... ما يجذبني للرياض هو أنها فيها... انتقلت إلى هنا لتعيش مع زوجها... لذا آتي إلى هنا لأتنفس أنا وإياها هواء ً واحدا ً... آتي إلى هنا كلما أشرفت على اليأس... لا أعرف في أي حي هي... ولا أريد أن أعرف... لقد تقبلت الرياض كاملة من أجلها.

- عدني مجنونا ً... مهووسا ً... أي شيء يعن لك... ولكن هذه هي الحكاية... بل نصف الحكاية... أما الباقي فسآخذه معي إلى تربتي.

* * *

" هذه هي الحكاية إذن يا سعد... هذه هي الحكاية"، همس بها حمد لنفسه وهو يملأ يديه بالماء ثم يفرغه على رأسه، ويمسح وجهه بقوة، كأنما ليطرد هواجسه.

" كل شيء أصبح واضحا ً الآن... ( صفحات حب تذروها الرياح)... كانت أنت... كانت حكايتك... كنت خالد... بعجزه... بألمه... بحبه الصامت... وهي كانت نورا بحضورها الطاغي وقوتها... كانت تلك حكاية الحب... ولكن بإطار مختلف... لقد بحثت عن التطابق فلذا لم أفهم شيئا ً... عددتها قصة أخرى... ولكن الآن... لا... كل شيء واضح... ولكنك منحت خالد ما لم تمنحه لنفسك... القدرة على اتخاذ القرار... القدرة على الرحيل... عندما لم تقوى أنت على الصراخ... أنا راحل... عجبا ً... كيف عميت عن هذا؟ كيف؟ لقد بحثت عن صورتين متطابقتين في اللوحة... وغفلت عن الصورة المشتتة".

" ولكن لم َ تخبرني بهذا كله؟ لم َ؟ حرام عليك يا سعد... لا أظن أني سأقوى على حمل هذا؟ آه... ليتني ما لقيتك... ليتني ما عرفت... ليتني مضيت في مسارب الحياة ولم تتقاطع طرقنا... ما أثقل المعرفة".

" هذه نصف الحكاية... وهناك بقية... ربما ستفضي لي بها يوما ً... ولكن لا... لا أريد أن أسمع شيئا ً... سأبتغي كرسفا ً أحشي به أذني... أو سأضع أصابعي فيهما... لأخرس كل الأصوات في دواخلي... ولأنعم ولو قليلا ً بالسكينة... بالصمت".

" والآن عدت من هناك... كيف تجاوزت تلك الليلة؟ كيف نمتها؟ كيف أمضيت نهار الذي تلاها؟ وماذا بقي لي منه؟ سعد... الذي انبجس أمامي البارحة كجرح ملتهب... هو ذاته الذي أوقظني للجمعة ضاحكا ً... كأنه ما قال... وكأني ما سمعت".

مسح حمد رأسه بقوة بمنشفة كبيرة تركت بعض خيوطها على شعره ووجهه، ثم لف جسده بالروب، وعاد إلى العالم.
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الفصل العشرون

كان قد لبس ثيابه عندما طرق الباب برفق... ولجت هيلة بعد الاستئذان... راقبته وهو يصلح حال شعره، ثم قالت:

- سلامات؟ شكلك تعبان مرة.

- الله يسلمك... لا ما فيه شيء... بس ما نمت زين أمس.

- ههههه، هذا أنتم يالشباب إذا سافرتوا خلاص تنسون النوم... تحاولون تبقون ساهرين لأطول مدة ممكنة... ما أدري وشلون تستمتعون؟

- أووووه... بدأت الدكتورة هيلة بالفلسفة... الدكتورة هيلة الأخصائية في السلوك والبنية النفسية والفسيولوجية لمرحلة ما بعد المراهقة وعميدة جامعة عين شمس وعضو الجمعية الأمريكية للكراث.

- هاه... هاه... هاه... سبحان الله... يا ثقل دمك... ما تنبلع ولا تنهضم أبد... المهم أبوي يبيك... رح له في الصومعة.

- خير إن شاء الله.

" أبي؟" ماذا يريد؟ غريبة؟ أحس بخوف يداخله... هل علم بسفري وحيدا ً؟ لا... لا يمكن، كنت قد سلمت عليه وقبلت رأسه حال دخولي لو كان يعرف لقال شيئا ً، أو تبينته في وجهه، لا... هذا شيء طارئ.

ارتاح لهذا الخاطر، فأكمل تنسيق شعره، ثم نزل إلى مكتب والده، طرق الباب ودخل بذات الرهبة التي تجتاحه كلما دخل، الرهبة التي رافقته منذ الصغر.

كان أبوه لغزا ً... بابا ً مغلقا ً، معتزل دوما ً، يقضي في هذا المكتب جل يومه، هذا الرجل هو نفسه الذي يطل عليهم ثلاث مرات في الأسبوع من خلال نصف صفحة في جريدة يومية، يخوض فيها معارك فكرية حامية مع البعض، ويطرح فيها قضايا عويصة، تذكر اليوم الذي حاول فيه قراءة مقال لأبيه، أحس بالنشوة حينها عندما لمس السعة المعرفية لدى أبيه وتلك اللغة الغريبة التي ذكرته بكتب التاريخ القديمة، رغم أنه لم يفهم كثيرا ً مما يتناوله من قضايا، كما أنه يذكر اليوم الذي ظهر فيه أبوه لأول مرة في برنامج على إحدى الفضائيات مناقشا ً لموضوع علمي متخصص، مازال يذكر سعادته كلما خاطب المقدم والده ( بيا أبو حمد)، كان يحس حينها بنشوة تردد اسمه في التلفاز بكل هذه البساطة.

- هلا حمد ( كانت هذه من أبوه ساحبة له من أعماقه).

- السلام عليكم.

- وعليكم السلام.

أشار إلى كرسي يقابل المكتب الضخم، وهو يقول:

- استرح، كيف كانت رحلتك؟

- الحمد لله زينة.

- وكيف ربعك؟ عساهم طيبين؟

- الحمد لله بخير.

- الظاهر إن مروان اللي أبوه راعي العقار كان معكم؟

- ايه.

تغيرت ملامح أبيه في لحظة، وظهرت نظرة صارمة في عينيه وقال في بطء مخيف:

- غريب؟ أنا أمس الخميس شفته في ( عثيم الدائري).

تحلب ريق حمد، وأحس بدوار في رأسه وفراغ في جوفه وشيء يضغط على صدره حتى لا يجعل له متنفسا ً، أنزل رأسه هاربا ً من نظرات والده الذي أكمل بذات الصوت الصارم:

- مهوب عيب عليك؟ تكذب علي وأنت بهالعمر؟

لم ينطق حمد بكلمة، غشيه خوف، وأحس كأن عقارب كل الساعات توقفت، وأنه الآن وحيد في هذا الكون، كل شيء تضاءل، كل الأصوات خفتت إلا صوته أبيه القارع:

- هذي ثقتي فيك؟ الله يخلف.

سكت قليلا ً ليكبت غضبا ً متأججا ً ثم أكمل بعنف وصرامة:

- حمد... ارفع رأسك... وقل لي كل شيء، علمني وين كنت ومع من؟ ولو حاولت تكذب علي أو تخفي عني شيء، بعرف وبيكون لي معك تفاهم ثاني.

انكسر حمد كإناء قديم، وروى مرتجفا ً خائرا ً كل شيء، حكى لأبيه حكايته مع سعد، قراءته لروايته في المنتدى، أحاديثهما في المسينجر، لقاءهما الأول في الشرقية ثم لقاء طريق النهضة ثم سفرته الأخيرة، وكان اهتمام أبو حمد يتزايد، وصار يستوقف حمد ويسأله أسئلة عن بعض التفاصيل، أخبره حمد محرجا ً بحكاية سعد وحبه، بالرواية الجماعية التي تجمعهم، الشيء الوحيد الذي استبقاه حمد لنفسه ولم يقوى على إخبار أبيه به هو مجروحة وعلاقته بها، كان يتجاوز هذه النقطة ولا يجعل الحديث يقوده إليها.

تراجع أبوه في مقعده وظل يحدق فيه صامتا ً، بينما أسبل حمد عينيه في خجل وجعل يحدق في الأرض، في النهاية قال أبوه:

- الحمد لله... كانت في بالي أفكار أسوأ، طبعا ً أرجو أن هذا ما يبعث في نفسك الارتياح، فأنت أخطأت ويجب أن تكون خجلا ً من حالك، لكن أنت الآن متعب... رح نم وقبل أن تفعل أحضر لي رواية صاحبك هذا، ورده على القراء، ورسالتك له ورسالته إليك، أريد هذه الأشياء مطبوعة لأطلع عليها الليلة، وغدا ً في مثل هذا الوقت، تأتي لي وسأخبرك برأيي في كل ما حدث إن شاء الله... زين؟

- ابشر يبه.

- يا الله... توكل على الله... وأتمنى قبل ما تنام إنك تفكر بقدر خيبة أملي فيك، أنا الذي كنت أتوقع أنك صادق معي بكل الأحوال، نظرتي لك تغيرت كثيرا ً هذه الليلة... سلبا ً وإيجابا ً.

نهض حمد وخرج من المكتب وهو لا تكاد تحمله قدماه، " واااوك... يا ربيه ما هذا الموقف؟ لا أستطيع التنفس ولا أكف عن الارتجاف... آه يا قلبي، أصعب موقف مر بي في حياتي كلها".

* * *

عندما نهض في الصباح، لم يدر ِ كيف نام؟ عندما استلقى على الفراش فرت مخه حكاية سعد... غضبة أبيه... التساؤلات التي طالته عن مقصود أبيه من الإطلاع على كتابات سعد؟ وماذا سيقول له الليلة؟ بدا له أن أبوه تقبل الموضوع بهدوء، كان قد توقع غضبا ً هادرا ً، تصرفا ً عنيفا ً، ولكن هذا الهدوء؟ الله يستر.

مضى نهاره كأسوأ ما يكون، لم يذهب إلى أصدقائه الذي يجتمعون في الاستراحة من بعد مغرب كل يوم، لم يحس برغبة في مجاوزة البيت، ولا الفراش، كان ذهنه يحمل كل شيء... كل الأسئلة... من سعد إلى والده... من الفتاة التي كانت تمهر سعد الشوكولا والقبلات... إلى والده وهو يكب على الأوراق قارئا ً... هل سيهزأ به؟ هل سينظر له نظرة الكبار للصغار؟ قال البارحة أنه سيخبرني برأيه اليوم... الله يعين... يارب يعدي هاليوم على خير.

عندما اقتربت الساعة من التاسعة والنصف مساء ً دفع نفسا ً وأقداما ً مترددة إلى مكتب أبيه، ودخل بضعف الخوف وبأضعاف الرهبة، دخل مرتجفا ً كمبلول في عرض الزمهرير.

كان أبوه جالسا ً بذات الوضعية التي تبرز في ذهن حمد عندما يأتي ذكر أبيه كصورة ذهنية دائمة له، بين يديه لفيف من الأوراق، قد بانت فيها خطوط وهوامش بالقلم الأزرق.

رفع رأسه ببطء، ونظر لحمد وأشار إلى الكرسي المشئوم إياه الذي تدحرجت عليه بالأمس حكايات حمد، جلس حمد ووضع يديه في حجره منتظرا ً، سحب أبوه أوراقا ً من الركام أمامه، وقال وهو يرتبها:

- فكرت بما قلته لي بالأمس، وقرأت ما أعطيتني، تبقت لدي الآن بعض الأسئلة لأكون فكرة كاملة عن الموضوع.

ثم سأله بعض الأسئلة التي بدت غريبة لحمد ولكنه أجاب عليها كلها، فألقى أبوه الأوراق على المكتب، وتراجع في مقعده وهو يفرك عينيه بعدما خلع نظارته السميكة، مرت لحظة صمت ثم استأنف قائلا ً:

- في البداية... أظنك فكرت بمقدار الألم الذي سببه لي معرفة أن أبني، يسافر إلى مدينة أخرى بدون حتى أن يخبرني، هذا التصرف غير المسئول منك، قد يبدو لك بسيطا ً، ولكن تخيل أنه حدث لك شيء لا قدر الله فكيف سأعرف بمكانك لأتدخل، لأقف بجانبك، عموما ً... أتمنى أن يكون ما مضى درس لك، وأن لا تعود لمثل ذلك مرة أخرى.

- بالأمس... نظرت إلى ما فعلته كأي شيء في الدنيا يحمل جانبا ً مشرقا ً، تجاوزا ً لكذبك وسفرك بلا إذن، وتهورك الكبير في لقاء إنسان لا تعرفه، وتحمسك الكبير الذي أتمنى أن لو وجهته وجهة تنفعك... أقول تجاوزا ً لهذه الأشياء التي تكون الجانب المظلم للحكاية، فهناك جانب مشرق يتمثل في اهتمامك وبدأ خروجك من مرحلة السكون إلى مرحلة الحركة.

- فالإنسان يا بني تتنازعه أشياء كثيرة في حياته، وهذه الأشياء تنقله بين أطوار الحركة والسكون، فهناك الإنسان ذو الطبيعة الساكنة وهو - بدون الدخول في مطولات - الذي لا يتغير، بمعنى تظل صفاته وأخلاقه كما هي لافتقاده لقيمتين مهمتين الأولى هي النقد الذاتي الذي يولد الرغبة في التغيير والتطوير للذات، والقيمة الثانية المعرفة والعقل الذي يوازن به بين الحلول الناتجة من عملية النقد الذاتي، لأن الحلول التي تبعثها عملية النقد الذاتي قد لا تتناسب مع المرحلة أو مع قدرات الإنسان نفسه، فتخرج الإنسان من السكون إلى ما هو أسوأ، أنت يا بني بدأت في الخروج من هذا السكون الذي يرتع فيه أقرانك وخلانك، وهذه تحسب لك.

- مما قلته أنت بالأمس ومما قرأته أنا هنا ( وأشار بيده إلى الأوراق) فقد خرجت بنظرية تفسر الغوامض التي لفت حكايتك، والتي مر بها عقلك سمحا ً.

- بداية... سأقوم الآن باستعراض الوقائع التي بين يدي مدللا ً على ومشيرا ً إلى ما جذب انتباهي وفي النهاية سأخرج برؤية يسندها العقل ولكنها تفتقر إلى الإثبات.

- دعنا في البداية نتناول علاقتك بسعد وندرسها بهدوء ونحاول إكمال النواقص فيها، ولا أريدك أن تغفل هنا عن شيئين... الأول أن تتعلم كيف تفكر وكيف تستقري الأحداث التي تمر بك، كيف تفهم تصرفات الناس من حولك، وهذا يساعدك كثيرا ً في اتخاذ قراراتك، والأمر الثاني هو وضع ما تعلمته وما استخرجته موضع التنفيذ، بحيث تكون عالما ً عاملا ً بما تعلم... اتفقنا؟

- على بركة الله.
لنبدأ ولنجمع القطع المتناثرة، لنكون منها صرحا ً، في البداية دخلت أنت ذاك المنتدى فوجدت فيه كاتب أعجبك... أليس كذلك؟ ماذا فعلت؟ كتبت له رسالة قلت فيها ( بحث بين الأوراق ثم أستل ورقة قرأ منها) ايه... " كل ما يشغل فكري هو كيف أصوغ حروفي لك" و" مبدع أنت يا سيدي، لا يتأبى عليك حرف ولا يجمح بك تعبير، وتنسال أحرفك إلى قلبي، سيدي وجدتك ما بين كل حرف وحرف" و أيضا ً " لكم وددت أن أكون بطلا ً من أبطالك، أسير على هدي حروفك، وعندما انتهيت وقفت وتمنيت أن أعرفك، أن أحدثك، أن يسمح قلبك الذي صاغ حرفك بي كتلميذ لقلمك"، هذه كلماتك أنت وقد خططتها أنا للاستدلال عليها وللرجوع لها، بعد هذا جاءك الرد، ورددت أنت عليه، ثم بنيت علاقة بينكما، بناء ً على هذا... أليس كذلك؟

- نعم.

- حسنا ً... بعد هذا التقيت به في المسينجر، أليس كذلك؟ ودعاك حينها للانضمام إلى كتابة الرواية الجماعية؟ هل كان هذا قبل أم بعد أول مشاركة لك في المنتدى؟

- قبل.

- ألم يبرز سؤال في ذهنك... على ماذا أتكئ هو في ذلك؟ ألم تتساءل لم َ يقوم شخص دقيق، مهووس بالدقة كما تصفه ويصف نفسه، بضم شخص لا يعرفه إلى مجموعة كهذه؟

- فكرت فيها وقتها، بس مع الوقت نسيتها.

- لا... لا يجب أن تنسى، دعنا نكمل وسنرى، بعدها ذهبت إلى الشرقية لزيارته للمرة الأولى... سؤال لم َ دعاك لذلك؟ هو إنسان منعزل مبتعد عن الناس... يا ترى لماذا يخطو خطوة تخالف طبيعته؟ لاحظ أنه سحبك من مدينة أخرى... لم َ فعل هذا؟ هل تساءلت؟

- ايه... بس ما لقيت إجابة.

- الإجابة موجودة ولكنها تحتاج إلى تفكير أعمق... المهم دعنا ننتقل إلى محطة تالية... جاء هو إلى هنا وبقي معك وقتا ً قصيرا ً، ماذا فعل حينها حدثك كما قلت عن وحدته ثم استعرض ثقافته أمامك ورحل، هنا نتساءل... لم َ فعل ذلك؟ بم كان يفكر حينها؟ قبل الانتقال إلى مرحلة أخرى دعني أسألك... ما الذي خلفه ذلك اللقاء فيك ناحية سعد؟ بمعنى كيف نظرت إلى سعد حينها؟

- حسيت بألم من أجله.

- والاستعراض الثقافي الذي قام فيه... ماذا أثار فيك؟

- أعجبتني ثقافته ومعرفته.

- جميل، الآن ننتقل إلى اللقاء الأخير... أما تساءلت عن السبب الذي يجعل سعد يفضي لك بكل هذا الكم من المشاعر؟

- فكرت.

- وطلعت بأيش؟

- يمكن يشوف فيني شيء من أخوه بدر... يعني ممكن إني أذكره به.

- لا... ليس هذا السبب... تسألني كيف جزمت بذلك؟ لأن هذا لا يفسر لم َ أخبرك عن الرواية الجماعية قبل حتى أن يلتقي بك.

سحب والده ورقة دون عليها بعض الأفكار وأكمل:

- دعنا الآن ننظر إلى خلاصة استعراضنا لعلاقتك بسعد، ونحدد التساؤلات التي تحتاج إلى أجوبة.
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
أولا ً لم َ دعاك بدون حتى أن يقرأ لك إلى مجموعته؟ ثانيا ً... لم َ أستعرض ثقافته أمامك ولم أخبرك بوحدته؟ وثالثا ً... لم خطا الخطوة الكبرى وأخبرك بمشاعره الداخلية وحبه الذي لم يخبر به حسب زعمه إلا أخوه الراحل... حصرنا أسألتنا... لنفتش الآن عن الأجوبة في دراسة جديدة وقراءة أخرى ولكن هذه المرة لشخصية سعد.

- أولا ً... لنتعرف على سعد، من هو؟ هو شاب في العشرينات من عمره، قارئ ومطلع، كما أنه كاتب ذو أسلوب رشيق لا يمكن إنكار هذا، هذه القراءة وهذا الإطلاع، تفصل المرء عن مجتمعه مع الوقت، وتنمي لديه اهتمامات لا توجد لدى الإنسان العادي، هذه القراءة توسع الفجوة بسرعة وباستمرار بين المثقف والإنسان العادي، ولشاب في هذا السن وبمثل نفسية سعد، هذه الفجوة يردمها للأسف الغرور والعجب بالنفس، وهو عجب بالمناسبة لا يسلم منه إلا من رحم ربي، دعنا الآن نكمل الصورة سعد نشأ على نظرات الإعجاب من أبيه... أمه... أخوته... وخصوصا ً أخوه الذي توفي... والمصاب بداء العجب بالمناسبة يحتاج دوما ً إلى من يغذي هذا الطبع فيه وبشكل متواصل، يحتاج إلى من يمتدحه دوما ً، ويبحث عن نظرات الإعجاب لدى الجميع.

- صاحبك مصاب بهذا الداء دون أن يدري، لنحاول الإجابة عن تساؤلاتنا من هذا المنطلق، السؤال الأول لم َ دعاك حتى بدون أن يقرأ لك؟ لأنك غذيت فيه ذلك الشعور برسالتك أتحب أن أعيد عليك كلماتك فيها؟ (كل ما يشغل فكري هو كيف أصوغ حروفي لك) و( مبدع أنت يا سيدي) و (لكم وددت أن أكون بطلا ً من أبطالك، أسير على هدي حروفك، وعندما انتهيت وقفت وتمنيت أن أعرفك، أن أحدثك، أن يسمح قلبك الذي صاغ حرفك بي كتلميذ لقلمك) هذه الرسالة لها فعل السحر في قلب امتلأ غرورا ً... وفي نفس معجبة... لقد وجد فيك سعد شيئا ً أفتقده منذ زمن.

- ثانيا ً... لم أستعرض ثقافته أمامك؟ ببساطة حتى يجذب نظرك أكثر، حتى يزيد منسوب إعجابك به، لاحظ هنا أن هذا الاستعراض جاء بعد نقص ذلك المنسوب عندما تركك ورحل في المسينجر... بعدما أحس بانتقادك لطريقة تعامله المتعالية مع القراء.

- ثالثا ً... لم عرض حكاية حبه لك بذلك الشكل وبالمناسبة أنا لا أكذبه في هذه الحكاية، الكل يا بني يمر بأحلام الطفولة والمراهقة، ثم يكبر فتصير ذكرى، ولكن لا يعقل لعقل مثل عقله وفكر مثل فكره، أن يظل معلقا ً بمثل هذا الحب، لا يمكن... صاحبك هنا كان يريد أن ينقل إليك شعور هو أنه رغم قوته وصراحته الظاهرية فهو يحمل قلبا ً محبا ً، يريد أن يشعرك بأن خلف ابتسامته ألم، يريد أن يزيد الهالة التي أحطتها به أنت منذ البداية وهجا ً، بمعنى أن يريدك أن تنظر له على أنه ذكي، قوي، وكذلك محب ورومانسي.

- أرجو أن لا يمثل ما قلته لك الآن صدمة، أعلم أنك تفكر بأن هذا استغلال لمشاعرك من أجل رغبة مريضة، ولكن الأفضل هو أن تستفيد من هذا الدرس، أن تتعلم إعمال عقلك دوما ً وعدم قبول الأمور التي ترد إليك كما هي بلا تساؤل أو فهم، وأعلم أن صاحبك قد لا يشعر بعلته ولا يدري بها، تبقت الآن بعض التساؤلات التي مرت بذهني، واهتديت إلى تفسيرها بعد حين.

- كان هناك تساؤل في ذهني عندما قلت لي أنه لم يعارض كثيرا ً الرواية الجماعية التي اتفقتم عليها، بدا لي هذا مخالف لشخصيته، فمثله لا يرضى أن يفرض عليه من هو أقل منه شيئا ً، ولكني اهتديت إلى التفسير عندما نظرت إلى قصتكم، أدركت حينها لم َ لم يعارض، أتدري لم َ؟ لأن القصة بكل بساطة هي قصته ولكن من وجه آخر، هي تنويع على روايته، ركز هنا... في قصتكم هناك علاقة حب... وهناك فتاة تحاول الوصول إلى شاب... ولكنها تفشل... سعد سيظل يدور حول هذه المواضيع... العلاقة التي تنتهي بفشل، المحب الذي يحاول الوصول إلى محبوب لا يدري به ويعجز... عقل سعد اللا واعي هو الذي قبل هذه القصة واستأنس بها.

- سعد يا بني وجد فيك مريدا ً آخر يا بني بعد وفاة مريده الأول، هذا ما خلصت إليه من قراءتي للعلاقة بينكما ومن قراءتي لشخصيته، ورأيت أنت الآن كيف تناسبت الفكرة مع تساؤلاتنا وأجابت عليها جزئيا ً، ولكنها تظل نظرية تفتقد الدليل، هل تعلم كيف تأتي به؟

- كيف؟

- الشخصية التي هذه صفاتها تضيق بآراء الآخرين، نقدهم، اعتراضاتهم، لأنها ترى أنها فوق الجميع، حاول لمرة أن تعارضه وبقوة، أن تكون مصرا ً على رأيك وموقفك، أتعلم ما سيحدث حينها؟

- ماذا؟

- سينبذك... إن فعل فهذا إثبات لرأيي.

- وإن لم يفعل؟

- إن لم يفعل... فالفتى نادر المثال والوجود، ولا أظن أنك واجد صديق كما هو.


الفصل الحادي والعشرون

خرج من مكتب أبيه محتملا ً أحمالا ً ينوء بها عقله، كان أبوه قد جلا كل شيء أمام عينيه، قد رصف العثار التي تخدد طريقه، علمه أشياء كثيرة... صدمه... وبقوة... بالحقيقة، كشف له أوهامه وهواجسه.

قصد غرفته وهو يفكر بصورة سعد التي صارت مشروخة الآن في ذهنه، سعد الذي كان كاملا ً في عينيه يتبدى الآن ناقصا ً، مهزوزا ً... سعد الذي كان في نظره مستغنيا ً عن البشر، يتبدى الآن محتاجا ً إليه هو ليغذي رغبة حقيرة وشهوة مريضة.

أهذا أنت يا سعد؟ أهذا أنت فعلا ً؟ هل كنت مخدوعا ً بك إلى هذه الدرجة؟ هل كنت تعبث بي طوال الوقت؟ هل تؤمن بكل ما أخبرتني به حقا ً؟ هل أحببت حقا ً في طفولتك؟ ما أخبرتني به هناك على الشاطئ أحقيقة هو أم خيال؟ لا... لا... حقيقة... ما زالت نبرات صوتك وأنت تحكي لي تتردد في أذني، لا يمكن أن يكون كل ذلك كذبا ً... لقد لمست الألم حقا ً في تلك الليلة على الشاطئ.

ولكن لا... الليلة تعلمت أشياء كثيرة، لقد فتح لي والدي فتحا ً جديدا ً، لقد نقل لي معرفة جديدة، لا... لا يمكن أن أثق بعاطفتي بعد اليوم، ربما أنت ممثل يا سعد، ربما أنت مثل هؤلاء الذين يبكونني أحيانا ً في الأفلام، ربما أنت ممثل وأنا وحدي جمهورك... لا لست وحدي ربما هناك مئات تخدعهم وتحكي لهم كل يوم قصة حبك... ربما لست المخدوع الوحيد في حياتك... ربما أنا آتي في نهاية صف طويل.

وتبدى له في هذيانه صف طويل يقف أمامه في بيداء قاحلة، وسعد يتبدى في نهاية الصف يسحب أيديهم واحد بعد الآخر ليؤدي أمامهم الدور الذي يجيده، نفض رأسه بقوة وقال لنفسه ولكن ما الذي يجعل أبي على حق في كل ما قاله؟ هو لم يلتق بسعد؟ لم يره؟ هل يعقل أن يعرف كل شيء عنه من بضعة ورقات ومن كلامي أنا؟ مستحيل... لا يمكن... حتى المحللين النفسيين يحتاجون إلى رؤية المريض، الجلوس معه، السماع منه، لا... أبي استخدم العقل بإفراط في قياس كل شيء يختص بسعد، أبي عامله بعقلية رياضية لا تقبل إلا البراهين والإثباتات، ولكن لم َ؟ هل هو يغار منه؟

يغار من سعد؟ ربما... الأب يسعد بأن يعتبره أبنائه قدوة لهم، أن يكون هو صانعهم، معلمهم، ربما غار أبي من علاقتي بسعد فقلله في عيني... نعم... أليس ما فعله أبي مشابه لما فعله معي سعد في طريق النهضة؟ أبي استعرض علي ثقافته وعلمه... كلاهما فعل بي ذلك... كلاهما جذب ضعفي بقوته... ولكن لا... ما هذه السخافة؟ حديث أبي منطقي... لم يجاوز المنطق أبدا ً... ولكن ما يدريني؟ أنا كنت منهار نفسيا ً أمامه فتقبلت كل ما قاله بسهولة، لم أناقشه في شيء، كما أفعل مع سعد، أصمت وأتقبل كل شيء ثم عندما أنفرد أبدأ بالاستسقاء فكريا ً... آه... آه... خلاص... خلاص، ما بي أفكر... تعبت... أبي أنام.
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
طيب... لحظة... لحظة... ليه ما أرتب أفكاري وأطلع بنتيجة، ليه ما أركز في الأحداث وأحاول استنتج منها رأي خاص بي، ليس رأي سعد، ولا رأي أبي، وإنما رأيي أنا، حمد... طيب... ممتاز... من أين أبدأ؟

ما أدري... ترتيب الأفكار صعب جدا ً، فكل شيء يفر من ذاكرتي؟ هل أبدأ بعلاقتي مع سعد من البداية؟ أم أبدأ بكلام أبي وأراجعه بهدوء وأقارنه بسعد كما عايشته؟ نعم... هذا أسهل وأسلم.

هل سعد مغرور فعلا ً؟ ربما هناك جزء من الغرور في أفعاله وأقواله وخاصة رده المتعالي على القراء، ولكن لو كان مغرورا ً لما أعترف بأن فتاة أفضل منه، أليس هو خالد؟ ألم يقل بأن خالد يمثله؟ وخالد يقر بأن نورا أفضل منه، خالد هرب من قوة نورا وسيطرتها، فر من هزيمته أمامها، فكيف يقبل سعد إذا كان مغرورا ً أن يقر بأن فتاة تفضله وتتفوق عليه؟ مستحيل... إذن الغرور لا يفسر كل شيء؟ هل العُجب بالنفس يفسره كما قال أبي؟

سعد معجب بنفسه... نعم، ممكن أن يكون ذلك صحيحا ً؟ ولكن هل هذا كافي ليخبرني بأسراره الخاصة؟ لا... لا يمكن، وخاصة أن مثل هذه الأسرار قد تقلل قيمته في نظري، ما أخبرني به سعد ليس دلالة على العجب بالنفس بل هو دلالة على الانكسار والضعف.

إذن كيف نظر أبي للموضوع؟ أوجد أمامه قطع متناثرة وقام بتركيبها فقط؟ نعم... صحيح... لو أحضرت سعد إلى أبي وأجلسته معه لساعة كاملة، هل كان أبي سيقول الذي قاله؟ هل كان سيستنتج الذي استنتجه؟ لا أظن.

عدت من جديد للتخبط، لا يوجد مقياس... لا أدري بكلام من آخذ؟ بكلام أبي، بكلام سعد، لا أدري... بدأت أشك في كل شيء، لا حول ولا قوة إلا بالله... من جديد... من جديد، ركز يا حمد، ركز.

لأبدأ بالأسئلة المهمة، كيف أخبرني سعد بحكاية حبه ولم َ؟ هل وجد في شبه من أخيه بدر؟ أبي نفى هذا ودلل على أن سعد عرض علي الانضمام إلى كتابة الرواية بدون حتى أن يراني، طيب... أبوي نظر للموضوع بشكل عام بدون ما ينتبه للتطور الزمني للعلاقة، صح... صح، ممتاز... هذه نقطة مهمة، أبي أغفل التطور الزمني لعلاقتي بسعد، علاقتي بسعد ما كانت في يوم وليلة، بل مرت بمراحل عدة، التطور الزمني مهم جدا ً، لأن المشاعر تتغير خلاله.

التطور الزمني للعلاقة... ممتاز، طيب من جديد... في البداية تعرف علي سعد بالرسالة التي أرسلتها له، هذه الرسالة ربما داعبت غروره، هنا يكون كلام أبي في هذه النقطة صحيح، ثم التقيت بسعد للمرة الأولى كان لقاء ً عاديا ً، لم َ طلب مني السفر للقائه؟ لا يوجد شيء يدل على أن سعد حاول إبهاري في تلك الرحلة، إذن لا يمكن أن يكون عجبه بنفسه هو السبب، ما السبب يا ترى؟ لأكمل... ثم ماذا؟ لقاء طريق النهضة... اها... ما تفسير ذلك؟ هل كان يحاول استعراض معارفه أمامي؟ ولكن لم َ لم يفعل ذلك عندما كنت عنده هناك في الشرقية؟ لم َ أحتاج إلى أن يأتي هنا ويقطع هذه المسافة؟ نعم... أبي لم يفسر ما الذي يأتي بسعد للرياض؟ هل غاب عنه هذا؟ أم أنه تجاهله لأنه لم يجد له تفسيرا ً؟ حسنا ً... لأعد من جديد للخط، لم َ جاء سعد ولم َ قال ما قاله في طريق النهضة؟ هل العجب كاف ٍ كتفسير؟ مستحيل... هناك شيء مفقود... لأكمل ما الذي دعاه لأخباري بحبه؟ ربما يكون بدأ يرى في أخيه بدر مع الوقت... لا يلزم أن يكون أحس بذلك من البداية، ربما بدأت علاقتنا بغرور منه، ثم بدأ ينظر لي كصديق، ثم كأخ بديل لأخيه الذي مات.

آه... يا ربي وش هالحوسة؟ أبي أنام... تعبت... تعبت، أف... ليكن سعد ملاكا ً، ليكن شيطانا ً، لم َ أشغل نفسي بهذا كله؟ أتحدى أن يكون سعد يفكر بي الآن ولو للحظة؟ لم َ أشغل نفسي بهذا؟ سبحان الله... أتعب نفسي بلا فائدة... سأنام الآن... سأتوقف عن التفكير، تكفي هذه السخافة، هذه المهزلة، الحمد لله... كأنه لا يوجد إلا سعد في دنياي، الحق على أبي أصلا ً، لم فرغ نفسه وضيع ليلة كاملة ليقرأ سعد ويفسره لي؟ كأني إذا فهمت سعد حلت مشاكلي، وصرت أفضل، بدلا ً من أنشغل بسعد علي أن أنشغل بنفسي، سبحان الله... كم الأوقات التي أصرفها في التفكير بالآخرين؟ ماذا قالوا؟ ولم َ قالوا؟ وأحاول تفسير ذلك بجهد وتعب؟ لم َ؟ لم َ لا أنشغل بنفسي؟ أصلحها وأرتقي بها؟ طيب خلاص... خلاص... لا تفتح قصة ثانية، نم الحين وأذكر الله... لا تفكر بشيء.

ولكن كيف ما أفكر بشيء؟ لازم أفكر... المخ ما يكون فاضي، طيب فكر بشيء غير هالدوشة، أممممممم، فكر... فكر بالبر، يا سلام... تخيل رمل... صعيد من الرمل، وأنا مستلقي عليه، مغمض العينين، والرياح تهب خفيفة لتذرو علي بعض الرمال، صمت تام يعم الكون، بجانبي شجرة عرفج صغيرة، في أصلها ثقب صغير، الآن تخرج سحلية رأسها منه بحذر وتتلفت، هذا هو عالمها البسيط، رمل وشجرة العرفج والطيور، هي تخاف من الطيور ومن الحيوانات الأقوى والأكبر، وتفر منها بالغريزة، لا تحاول دراسة نفسيات الطيور، ولا يهمها التطور الزمني في علاقتها بالضب، لا يهمها أي شيء غير قوت يومها، أما هذه العلاقات المعقدة فلا تهمها، آآآآآ... انتبه لا ترجع للدوشة من جديد، خلك في دربك، ايوه... السحلية تطلع من الجحر الذي في أصل العرفج، ثم تنزلق على الرمال بحركتها المتمايلة الناعمة، تترك أثرا ً صغيرا ً وتغيب خلف كثيب قريب، من جديد وحيد أنا في هذا الكون، قبل قليل كانت السحلية هنا تؤنس وحدتي والآن رحلت؟ إلى أين ذهبت؟ هل ستعود؟ ربما لا، ربما يقتلها مروان كما قتل أختها العام الفائت عندما كنا في روضة ( الخفس)، مروان يكره السحالي، مروان !!! آه... أين أنت أيها العزيز؟ آآآ... لا... مهوب وقته... مروان بعدين، كمل طريقك... لا توقف... أيوه... سحلية ثانية تخرج رأسها من الجحر، ربما هي الأنثى، تنتظر ذكرها الذي خرج طلبا ً للرزق، أمممم، صحيح... السحالي لا تعمل بشكل جماعي، السحالي من المخلوقات التي يعمل كل فرد منها لوحده، هناك مخلوقات تعرف مبدأ وقيمة التعاون، مثل البشر، النمل، النحل، الضباع، وهناك مخلوقات لا يمكن أن تقوم بعمل جماعي منظم، مثل الغنم، الأبل، والسحالي... يا ليلة السحالي الطويلة ذي... الظاهر ما فيه نوم إلى الفجر، أقوم أشوف لي شيء أسويه أحسن.
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
والموج يتهادى به الآن... أدرك أنه غاب وانعزل في داخله طويلا ً... طويلا ً جدا ً... وخاصة عندما وجد بريده مكتظ برسائل مجروحة ورسالة يتيمة من سعد.

مجروحة... كأنها لم تكن... لقد فارقها مساء الأربعاء وهو يخبرها بأنه سيتغيب غدا ً أي يوم الخميس وسيكون موجودا ً الجمعة، لم يخبرها حينها أنه ذاهب للقاء سعد، سعد الذي صار اسمه بينهما ( تابو) لا يجرؤ على ذكره.

ولكنه عاد الجمعة متعبا ً منهوكا ً... يبحث عن فراشا ً يحتضنه، فألفى الموج يترصد له وراء باب مكتب أبيه، ليكتسحه مرة أخرى مساء السبت، وهاهو في مساء الأحد ينظر إلى رسائل مجروحة التي تلونت عناوينها ( خميس بدونك)، ( الجمعة... انتظرتك)، ( أين أنت؟ سبت بلا طعم)، ( الأحد... يدي على قلبي) ورسالة سعد الوحيدة ( الفصل الأول... رأيكم؟).

قصد الرسالة الأولى... سرح بين كلماتها الجميلة... المشكولة... بدت له كأنها ورود ملونة تتهادى على باقي أمواجه التي هدأت أخيرا ً، ثم رسالتها الثانية التي حملت عتابا ً رقيقا ً على إخلافه موعده، وانتظارها له حتى يأس منها الليل والوسن... أما الرسالة الثالثة... فكانت رسالة مرهقة متعبة... بتعبها وإرهاقها الذي أخلف سهرها في الليلة الفائتة من أجله، كما حملت الرسائل تساؤلا ً عنه وعن حاله... وأين هو؟ أما الرسالة الأخيرة... والتي يشير وقت إرسالها إلى ساعة مضت، فكانت تحمل مزيجا ً فريدا ً من العاطفة القوية، والقلق، والحيرة... كانت الرسالة تخبره أشياء أكبر... وأكثر من حروفها القليلة... كان ما بين السطور يخبره بأكثر مما قالت السطور.

تألم لما فعله بمجروحة... هذه الطيبة، الرقيقة، التي لا تتلون، هذه البسيطة التي لا تعرف التطور التاريخي، ولا تحاول تحليل أي شيء يخصه، فتح صفحة الإرسال... وتوقف كثيرا ً أمام بياض الصفحة القوي الذي يعشي عينيه ويمنعه من الكتابة، فرت الكلمات منه كسرب آرام جفول، كتب بإرهاق ( أنا بخير... أنا آسف... سأعود لأكتب لك ِ) تأمل حروفه العجفاء... ولكنه لم يجد خيارا ً آخر فأطلقها لتهيم في الفضاء السيبري.

تبقت رسالة سعد، أو فصله... كيف سيقرئه؟ بل كيف سيقرأ أي شيء لسعد بعد اليوم؟ كيف سيفهم ما يريد؟ كيف سيفرق بين ما هو حقيقة وبين ما هو متخيل؟ كيف سينجو إن ولج هنا من سطوة الحروف، ومن زخرفها، هل سيستطيع سعد النفاذ مرة أخرى إلى دواخله... هل سينجح مرة أخرى في خداعه؟ هل خدعه؟ آه.

فتح الرسالة وترك الفصل ينبسط أمامه، سيسكر الآن... هو متأكد من هذا، سيسقيه سعد من رحيق حروفه حتى يتعتعه الثمل، سحب نفسا ً باردا ً عميقا ً إلى جوفه وبدأ يقرأ.

* * *

(

... كنت أضحك من أعماقي عندما تحاول خالتي العجوز تقليد حركات أخوتي لتوصل لي أمرا ً تريد قوله...

... لم أفهم نقصي إلا بعدما تعلمت القراءة وصرت أتحير أمام ألفاظ ( قال)، ( صرخ)، ( همس) في عالمي الصامت...

... النظرة، اللمسة، والحرف، هذه مكونات لغتي التي تبدو لي كافية جدا ً...

... كنت أتكور في حضنها، أدفن رأسي في صدرها الذي أنهكته السنون والأطفال الذين تعاقبوا عليه، هناك كنت أنسى العالم كله...

... كانت قصة طويلة، مضحكة، ومتعبة، تصور ومعرفة معنى كلمة ضوضاء، كانت الكلمة تبدو لي جميلة الشكل، خلطت في البداية بينها وبين الوضوء لوجود تشابه في الحروف، ثم ظننت عندما عرفت أنها تربط بالأصوات أنها صوت الماء المتساقط من المتوضئ، هاهاه...

... كنت متسائلة، ولذلك عندما كتبت لي اسمها على ورقة ( حفيف)، أعجبني رسمه كثيرا ً، سألتها عن معناه فهزت كتفيها بمعنى أنها لا تعرف، فيما بعد علمت أنه اسم لصوت، هههههه، يا لحظي الرديء...

... أحببت خطها الجميل، تساءلت أي قلب يمكن أن يوشي الصفحة هكذا، كنت أمضي بين الصفحات المليئة بالهذر عندما توقفت عند ورقتها، رائعة... جميلة، لا بد أن أعرف من هي...

... كتبت لي اسمها ( منى)، ضحكت بقوة حالما قرأته، أشارت لي متسائلة عن سبب هذا الضحك الغريب، كتبت لها كنت أخشى أن يلقي بي حظي كالعادة إلى فتاة اسمها ذو معنى صوتي، ( رنين) مثلا ً...

)

* * *

انتهى الفصل... هكذا... فعلها سعد مرة أخرى، سحبه من جديد إلى عالم صامت يموج بكل شيء، عالم من الألوان والروائح، عالم ذو ملمس، عالم جميل... تمنى أن لو منحه سعد أكثر، لو أنه وسع له في السرد ليعيش أكثر مع هذه الفتاة الجميلة، الحية، هذه الفتاة التي تكاد تقفز من النص بقوتها، بروعتها، بروحها... أحبها... لا غرابة في ذلك كما أحب خالد من قبلها.

تذكر فتاة مجروحة الكئيبة، فجرت مقارنة سريعة في ذهنه، أحس بعدها بالألم... هكذا هي الحياة دوما ً... مجروحة الطاهرة، البريئة، تتراجع وتهزم أمام سعد القوي، سعد ذو الأقنعة والوجوه العديدة.

كيف يفعلها؟ تساءل حمد؟ كيف ينظر سعد دوما ً للأشياء من الزاوية الأجمل؟ كيف تكون لديه أفضل زاوية للصورة الواحدة التي نرقبها كلنا؟ كيف يفهم القارئ، فيمنحه ما يريد؟

غادر الجهاز... بل الغرفة كلها، بل المنزل بأسره، وجعل يتقلب في الشوارع المظلمة، يحمل معه كلمات سعد، وبقايا من حروف مجروحة، مجروحة التي ستجرح غدا ً عندما يجتمعون، ربما جرحت الآن وهي تقرأ فصل سعد بين يديها، ربما ستنطوي في ظلام الليل، وهي تحدق في حروفه وحروفها، تخيل دمعة تنفك من إسار أهدابها الجارحة لتحط على خدها، أحس بكراهية في صدره لسعد، لقوته، لحروفه، لفصله.

عاد إلى المنزل عندما لفظته الطرق، عاد والموج يهدر ولكنه هذه المرة ويا للعجب كان موجه هو.
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الاثنين/ مساء ً.

وردوه جميعا ً... جاء هو... وجاءت هي... وجاء ( الليل)، تبادلوا التحايا وكلمات البداية اللطيفة، وقليل من الضحكات، ثم قال سعد:

قلم: بسم الله الرحمن الرحيم.

قلم: ناقشنا في الأسبوع الفائت، الفصل الذي كتبته أختنا مجروحة، وكان لي بعض الانتقادات والملاحظات، وكنت قد وعدتكم بفصل أرسلته لكم بالأمس، وسنفسح النقاش حوله اليوم حتى نصل إلى صيغة مناسبة للفصل الأول.

قلم: الآن لنبدأ بالأكبر سنا ً، الليل عطنا رأيك في الفصل.

الليل: أنا منب أكبر واحد، أنا أصغركم، أكبرنا ضوء، عمره أربعين وعنده بنتين وولد وأسم حرمته مزنة.

ضوء: ههههههه، الله يقلعك فضحتني.

قلم: ههههههه، الليل وش أنا قايل لك؟ ما قلت لك لا تشرب عصير تفاح على الريق؟ لا حول... تجي هنا مخبط.

قلم: المهم... عطنا رأيك الله يصلحك ولا تضيع وقتنا.

الليل: الحقيقة الفصل منتاز وما عليه خلاف اعجبني كثير.

قلم: عندك انتقادات؟ ملاحظات.

الليل: لا والله التسذب خيبة وبعدين انت ما عقبك ما شاء الله عليك

قلم: الله يخليك.

قلم: مجروحة... ضوء... آرائكم.

مجروحة: لو سمحتوا لي، أنا قريت الفصل وكان جميل، يعطيك العافية، ملاحظاتي بسيطة وهي:

مجروحة: أولا ً البنت حاسة كلامها أكبر من عمرها يعني أحس أنها تتفلسف كثير وهي يعني المفروض تكون بنت عادية.

مجروحة: ثانيا ً: البنت طريقتها في الكتابة غريبة، يعني ما هو أسلوب بنت، واضح أنه أسلوب ولد.

مجروحة: أيضا ً البنت أعطتنا في هذا الفصل تفاصيل كثيرة عن حياتها وهذا يتوه القارئ، يعني أنا لما خلصت من قراءة الفصل نسيت نص الأشياء الموجودة فيه.

مجروحة: لاحظت أنه الفتاة متقبلة لعلتها، يعني بالعكس تسخر منها وتضحك منها، ما أدري أنت ككاتب متصور الآلام الإنسانية سهلة لدرجة أنه الواحد يسخر منها.

مجروحة: هناك أيضا ً بعض الأخطاء الإملائية بس مو مهم ممكن تصحح بواسطة الوورد.

مجروحة: بس هذي ملاحظاتي.

قلم: مشكورة أختي مجروحة على صراحتك الجميلة جدا ً.

قلم: بالنسبة للملاحظة الأولى وهي أن البنت أكبر من عمرها، البنت في الخامسة والعشرين، ولاحظي أختي أنها مثقفة لأنه الحروف هي وسيلتها في الاتصال بالعالم، أما إذا كنت ِ أختي لا تستطيعين تصور فتاة لها هذه القدرة فأنت فتاة وأنت ِ أدرى.

قلم: بالنسبة لأسلوب البنت وأسلوب الولد أتمنى أنك تزودينا أختي مجروحة بالمقياس الذي تستخدمينه للحصول على جنس كاتب السطور.

قلم: بالنسبة لأن التفاصيل تتوه القارئ، فهذا شيء غريب لأنه من الأفضل أن يخرج القارئ بمجموعة كبيرة من التفاصيل عن الأبطال والقصة من أنه يخرج بمجموعة من التأوهات والمونولوج الداخلي الممل.

قلم: بالنسبة للآلام الإنسانية التي يبدو أنه لديك خبرة كبيرة جدا ً فيها، الحقيقة لا أجد صعوبة في فهم أنه الإنسان يمكن أن يتقبل ما خلقه الله به، وأنه لا يقضي طول عمره يصرخ لأن الله خلقه أصم.

قلم: أما بالنسبة للأخطاء الإملائية والتي بينت لنا أنك ِ خبيرة جدا ً في الوورد، فيمكنك تعديلها بكل البساطة التي تقبلنا بها فصلك الحافل بها بالإضافة إلى الأخطاء المنطقية والأسلوبية والنحوية.

قلم: جميل... والآن دورك أخي ضوء.

مجروحة: لحظة... ممكن تحترم نفسك وتتكلم معنا بأسلوب أفضل من هذا؟

قلم: أي أسلوب؟ أنت ِ أبديت ملاحظات وأنا رددت عليها بما يناسبها... لا يلزم أن تعجبك ِ ردودي.

مجروحة: هذي سخافة، أنت شايف نفسك على أيش... أبي أفهم؟

قلم: الحقيقة لا أريد أن أتكلم عن السخافة، خاصة بعد ملاحظاتك الأخيرة.

الليل: يا اخوان وسعوا صدوركم الموضوع ما يستاهل.

مجروحة: تافه، كيف يسمح لنفسه يعاملنا بالطريقة هذي، يعني لازم يعجبنا أي شيء يكتبه... أنتم شايفين كيف يعاملنا؟

قلم: لو سمحتي أختي لو ظننت ِ أننا هنا جالسين في قعدة حريم فأنت ِ مخطئة... وبعدين بلاش أسلوب الاستعداء هذا... يعاملنا؟ لا تحطين الأخوان في النص.

مجروحة: أنا الغلطانة أصلا ً اللي باقية هنا.

ثم في لحظة غادرت... وبقيت كلماتها هناك تواجه الجميع.

* * * * * * * * *


الفصل الثاني والعشرون

كيف حدث هذا كله؟

سيبقى هذا السؤال في بال حمد لعدة أيام، ثم سيزوره من وقت إلى آخر، ربما سيزوره حال الندم، حال الألم، حال الفقد، سيزوره في كل ضيق كنموذج لما يمكن أن تسوء إليه الأمور، ودوما ً ستكر عليه الأسئلة التي بلا أجوبة... أو التي ترفض الأجوبة وتنفر منها.

كيف يحدث هذا بسرعة؟ كيف تتقلص المسافات والأزمنة في الحب والكره؟ كيف يمكن لكلمة... لنظرة... أن تدمر عالما ً ظننا ديمومته؟ كيف لها أن تنفذ إذ تنفذ إلى الأعماق لتزرع بذورا ً... ما تلبث بعد حين أن تستطيل أفرعها وتنتج ثمارها المرة.

بإمكان حمد أن يكرر الأسئلة إلى الأبد، بإمكانه أن يحملها معه في كل مكان، ولكن لا يمكنه أبدا ً الخروج بأجوبة تريح باله وقلبه، كل ما سيحصل عليه هو سلاسل لا متناهية من الجمل والكلمات الوصفية، التأملية، أما الأجوبة... فما أصعب صناعة الأجوبة.

كان حمد متعب الذهن ليلتها، ربما هذا هو التفسير، ليس التفسير الوحيد قطعا ً، ولكنه تفسير من عدة تفاسير، كان متعبا ً من التفكير، كان متعبا ً من الصمت فظن أن الكلام ربما يخلصه، كان متألما ً للحال التي آل إليها حتى أنه لم يحتمل فترك كل ما يموج في دواخله، يتبدى على السطح ليجرف أشياء عدة.

فرت مجروحة ليلتها بالجراح والألم، وبقي الكلام بين الثلاثة الذين بقوا يتخبط ذبيحا ً، حتى استأذن الليل وولى ليفرد لحمد وسعد المساحة التي لا يريدها أحد.

كان سعد في مزاج متعكر، هل هاجمها؟ ربما قليلا ً، هل تحدث عن الذين يفتقرون إلى أبسط مقومات النقد وأساليبه، ربما كثيرا ً، حينها كان حمد قد استثقل دثار الصمت، فنحاه ببطء.

* * *

الاثنين/ عودا ً لما كان.
...
..
.

سعد: يعني سبحان الله لازم الواحد يرضي الجميع، ولا يقول رأيه بحيادية.

حمد: ما أحد منعك تقول رأيك ولكن بأسلوب أما الهجوم فهذا مهوب رأي.

سعد: هجوم؟ أي هجوم؟ هي اللي هاجمتني... أنا كل اللي سويته هو إني رديت على هجومها... يعني الغلط غلطها هي يا أستاذ.

حمد: غلطها هي؟ هذي مشكلة اللي ما يرى إلا نفسه، هل حاولت أنك تعتبر أفكارها نقد مهوب هجوم وترد عليها بأسلوب وأدب مثل ما فعلت هي في الأسبوع الماضي؟

سعد: أسلوب وأدب ما شاء الله... وأنا وين فيه جاوزت الأسلوب والأدب؟

حمد: ردك هذا وش معناه؟

(( قلم: أما بالنسبة للأخطاء الإملائية والتي بينت لنا أنك ِ خبيرة جدا ً في الوورد، فيمكنك تعديلها بكل البساطة التي تقبلنا بها فصلك الحافل بها بالإضافة إلى الأخطاء المنطقية والأسلوبية والنحوية))

سعد: لا يا شيخ؟ أجل وش معنى كلامها هي؟

(( مجروحة: هناك أيضا ً بعض الأخطاء الإملائية بس مو مهم ممكن تصحح بواسطة الوورد))

سعد: هل في هذا أدب أو ذوق؟ وإلا هجوم صبياني لمجرد أني نقدت أسلوبها في الفصل الفائت.

حمد: كلامها عادي قالت إن عندك أخطاء وإنه يمكن نصححها بالوورد... كفرت يعني؟ وإلا أنت تبي كل الناس تصفق لك وتمدحك بس؟

سعد: لا تصفقون لي ولا تمدحوني، ولكن ردها هذا كان رد لئيم تقصد من ورائه إني مبتدأ حتى إني أحتاج إلى الوورد ليصحح لي، هي بس حبت تنتقم من ردي عليها الأسبوع اللي فات، عموما ً أثبت إني قلت شيء خطأ في نقدي لها الأسبوع اللي فات وأنا أعتبر نفسي خطأ.

حمد: وأثبت أنت إنها قالت شي خطأ في نقدها لط اليوم.

حمد: لط = لك.

سعد: شوف يا بابا لما تجي تقول لي

(( ما أدري أنت ككاتب متصور الآلام الإنسانية سهلة لدرجة أنه الواحد يسخر منها))

سعد: فهي هنا تعنيني أنا... تهاجمني أنا... لأنه عقلها الصغير يصور لها إني أنا تهجمت عليها الأسبوع الفائت وهي تحاول ترد لي الهجوم.

سعد: وبالمناسبة هذي ليست مشكلتها وحدها... بل هي مشكلة الكثيرين أن النقد لديهم نقد كلي، فأي نقد يطلق على جزئية منهم ينصرف ذهنهم إلى الكل.

حمد: هذا اللي أنت جيد فيه، الفلسفة بس، لكن ما عندك رد مقنع.

سعد: أقول تيس يقول أحلبه... أنت وش فيك اليوم؟ رد مقنع على ايش؟ على تفاهتها؟ للأسف توقعتك أذكى من كذا يا حمد.

حمد: أنا أحاول أفهم اللي صار اليوم، لكن الظاهر أنت مبسوط برحيل البنت لأن هذا يترك الساحة كاملة تتصرف فيها بكيفك؟

سعد: أي ساحة؟ ووش هو اللي بكيفي؟ أنت وش تبي بالضبط؟

حمد: يعني بكل بساطة أنت يا سعد تعمدت اليوم تطفش البنت عشان تقدر تكتب الرواية براحتك وعلى كيفك، أصلا ً أنت متضايق من الأسبوع اللي راح لأنها سبقتك في كتابة الفصل.

حمد: كما إنك ما تحب أحد يشاركك في الكتابة أو يعطيك رأيه في أي شيء، كل شيء لازم يكون كما تريده أنت.

سعد: وش ذا السخافات؟ لو كنت أبي أطفشها ليش جبتها من البداية؟

حمد: عشان تستعرض نفسك أمامنا وترضي غرورك بانبهارنا بك وبقدراتك، ولكنك تجننت لأن مجروحة عارضتك، وكان يمكن تتجنن لو أنا أو الليل عارضك.

سعد: أنت صادق بكلامك هذا و إلا تمزح معي؟

حمد: للأسف أنا كنت أتساءل من البداية على أي أساس اخترتني لهالمجموعة بدون حتى ما تقرأ لي شيء وبدون ما تعرف مستواي في الكتابة، لكن الآن فهمت أنه أنا والليل ومجروحة كنا مجرد أدوات لإشباع غرورك.

سعد: حمد... أنا أقدر أرد عليك ولكن أظن إنك في حالة غير طبيعية الآن ولذلك سأتجاوز ما قلته، لكن تأكد إني أبناقشك فيه بعدين.

حمد: غرورك يفسر كل شيء يا سعد ولا تزعل من هذا الشيء، كل الأشياء اللي حيرتني، كلامك في طريق النهضة، اختيارك لي في هذي المجموعة، تعاملك المتعجرف مع القراء، حتى قصة الحب اللي أخبرتني فيها، كل شيء يشير لغرورك اللي ما أدري وين بيوصلك
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
( قلم بلا اتجاه) قام بتسجيل خروج.

* * *

ثم مضى زمن...

((

العزيز حمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أعلم أنك الآن بعيد جدا ً، وأعلم أنك ربما لن تقرأ هذه الرسالة إلا عندما تعود من سفرك، الذي أدعو الله أن يحقق لك فيه مقاصدك، وأن يعيدك لنا سالما ً غانما ً.

عندما نهضت اليوم في الصباح أحسست بأني سأفتقد شيئا ً جميلا ً في حياتي ابتداء من اليوم، رسائلك ووجودك.

لم َ أكتب لك؟؟؟ وأنا أعلم أن هذه الرسالة ستبدو لك بايتة عندما تعود وتقرأها، ولكني أريد أن أفعل ذلك، أن أكتب لك، أن أتخيل أنك مازلت موجودا ً وأني سأفتح بريدي ضحى الغد لأجد رسالة منك تتصدرها عبارتك الشهيرة ( أسعدتي صباحا ً آنستي).

تدري؟؟؟ هههههههههه !!! أنت الوحيد في العالم اللي يقول لي آنستي، فأنا في نظر الآخرين إما فاطمة، أو فطوم، أو فاتيما كما تنطقها ( مريم) الفليبينية التي تعمل معي، أو بنت، أو هيه، أو أخت، أو فتاة الأحلام، وهذا هو اللقب الذي تلقبني به أختي سراب، ودعني أؤكد لك أنه ليس خطابا ً وديا ً أبدا ً.

آنستي، أحببتها منك وصارت لي لقبا ً أفخر به، تدري يا حمد أحيانا ً أفكر بحالي قبل لقاءك؟ كيف كنت أقضي وقتي على المسينجر؟ لا أصدق الآن الساعات التي كنت أقضيها في الهذر مع صديقاتي، لا أصدق مقدار الكلام والمواضيع التي كنا نتحدث عنها، بينما أحس بجفاف تام عندما أريد الكتابة لك، لأني أريد اختيار موضوع يهمك ويعجبك.

تصدق؟؟؟ للحظات تخيلت أنك فعلا ً موجود وأنك سترد على رسالتي غدا ً، سبحان الله، هل تعلم ما تفسير هذا يا حمد؟ ما تفسير أن يكون هناك شخص قريب منا جدا ً حتى أننا نحس بوجوده حتى ولو كان غائبا ً.

سأفعل الآن ما تعودت على فعله، سأحكي لك كيف كان يومي.

نهضت في الصباح كالعادة، وفعلت كل الطقوس التي أخبرتك بها مئات المرات، ثم أوصلني أبي إلى عملي كالعادة، طبعا ً ظللت أتأمل السيارات طوال الطريق، وأصوغ قصة لكل وجه، حركة، لوحة أراها، عندما أكون في السيارة الساكنة، الصامتة، لا أفعل شيئا ً غير التأمل في المناظر التي تمر بي.

وصلت إلى البوابة التي تفتح آليا ً، وصفت لك شعور الدخول إلى المكان البارد، لفحة الهواء البارد التي تخترق حتى غطاء وجهي لتنفذ هناك إلى أقصى أعماقي، تلك اللفحة التي أعشقها رغم كل شيء.

ثم الرواق الطويل الذي صرت تحفظه من كثرة ما وصفته لك، ولوحة الإعلانات على اليسار، والنبتة الاستوائية التي أكاد أقسم أنها مزيفة على اليمين، ثم الدرج حيث أصعد إلى الطابق الثاني والغرفة الثالثة على اليسار.

طبعا ً كالعادة عندما أدخل أجد زميلاتي س وت وج وقد سبقنني، أتمنى أن أصل إلى المكتب ولو مرة واحدة وأجده خاليا ً، أتمنى أن أكون الأولى في الوصول إلى هنا ولو لمرة واحدة، ولكن هذه حكاية طويلة.

طبعا ً لا يمكنك أبدا ً أن تدرك كيف يمر الوقت هنا، لا أبطأ ولا أضجر ولا أكثر إثارة للملل من هذه الغرفة ومن هاته الزميلات، فـ ( س) لا تزال تتحدث عن زوجها وطفلها، أريد أن أفهم فقط كيف يمكن لها أن تجد كل هذه التفاصيل في حياتها، صدقني يا حمد عندما تعود من سفرك بإذن الله فإن التفاصيل التي ستعلق في ذهنك من هذه الرحلة كلها لن تساوي تفاصيل يوم واحد من أيام الأخت س.

تخيل !!! اليوم كانت تحكي لنا حكاية طويلة جدا ً ذات تفريعات كثيرة وتفاصيل مطولة عن خاتم أهداها إياه زوجها، سبحان الله !!! ألا يمكن لزوجها أن يذهب إلى أي محل ويشتري خاتم كما يفعل خلق الله؟؟؟ بالطبع لا فــ ( س هانم) تجعل من الحكاية ( ثلاثية سيد الخواتم) ومن زوجها ( فيغو مورتينسون) ذاته.

الله لا يؤاخذنا !!! أما الأخت ( ت) فلازالت تستعرض ملابسها وماكياجها، أريد أن أفهم !!! بالله عليكم !!! ليشرح لي أحد هذا ثم ليقتلني بعدها، من أين تأتي هذه الأخت بالطاقة والقدرة والرغبة على النهوض في كل صباح واختيار تنورة وبلوزة وحقيبة وكنادر مختلفة في كل يوم، ثم وضع ( فل مايك أب) قبل الحضور للعمل؟؟؟ لازالت في النساء من يثرن عجبي !!!

لا تظن أني أغار منها، لا والله فهي رغم البهرجة التي تقوم بها سيئة الذوق ولا تجيد اختيار ملابسها ولا وضع ماكياجها بالشكل الصحيح، لا أظن أن أحدا ً سيضع توليفة شدو وروج أسوأ منها.

تبقى الحبوبة ( ج) فهي الوحيدة التي تبعث الأنس في تلك الغرفة الكئيبة، بضحكتها العالية تلك، التي تسارع بكتمها بيدها البدينة وهي تقول ( يا خزياه !!! لا يسمعوني الرجال) أو بأكياس الـ ( إم أند إمز) وحلويات السنكرس والجالاكسي التي تملأ حقيبتها، التي تشبه حقيبة طفلة بحق.

لا أستطيع منع نفسي من الضحك في كل مرة تضع فيها يديها حول خصرها، وهي تقول ( يا ربيه والله إني دابة شوي)، يا حبي لها، رغم أنها أكبرنا سنا ً ولكنها طيبة القلب والروح.

المسكينة علمت قبل فترة أنها تعاني من مشاكل مع زوجها، طبعا ً لم أستطع معرفة كنه هذه المشاكل، فهي لا تخبرنا بذلك ولا تتكلم حول الموضوع، ولكن ( س) السوسة سمعت طرفا ً من مكالمة هاتفية لها مع زوجها، ويبدو أنها كانت تهدده بترك المنزل والذهاب إلى أهلها، ما أدري ماذا حل بهذا العالم؟ لا ريب أن رجلها بلا قلب حتى يستطيع إيذاء طفلة مثل هذه، والله العظيم أن الدنيا تسود في وجهي إذا جاءت متكدرة في الصباح، كأن أحدا ً كان يصيح فيها طوال الطريق، أو عندما تعود من دورة المياه وأعرف من عينيها الحمراوين أنها كانت تبكي هناك.

لا أريد أن أتشبه بـ ( س هانم) وأحول يومي إلى ألف ليلة وليلة، أو عفوا ً إلى ألف حكاية وحكاية في يوم وليلة، تصدق؟؟؟ هذا يصلح عنوان قصة، لا تسرقه واللي يخليك بأستخدمه بعدين.

عدت من العمل متعبة جدا ً، وكما تعرف لا غنى عن نوم العصر، تصدق؟؟؟ لا أذكر متى آخر مرة كنت فيها متيقظة عصرا ً، صرت أنام العصر حتى في إجازة نهاية الأسبوع، صار النوم عملا ً لا إراديا ً.

وكالعادة أوقظتني أمي لصلاة المغرب، فنهضت متثاقلة وأنا أشعر بأن رأسي بوزن حجر ضخم، فترة المغرب هي فترة عدم التوازن لي، التي أحاول فيها أن أجد نفسي بمساعدة كوب كبير من القهوة السادة.

بعد صلاة العشاء جاءت الفترة التي أدعوها بالملل الأعظم، تصفحت مجلة قديمة، قلبت في التلفاز، تجولت في الانترنت قليلا ً، تشاجرت مع أختي قليلا ً، أشياء كثيرة أفعلها بلا معنى، أحس بأن الليل طويل جدا ً، لم أتعود على النوم باكرا ً، ولكني أيضا ً لم أتعود على إشغال نفسي بشيء، بدأت أحن لأيام الدراسة والمذاكرة التي لا تحلو إلا ليلا ً، وذلك الرعب المعوي الذي يجتاحني في ليالي الامتحانات، آه سقى الله تلك الأيام.

مازلت أتحدث لك، رغم يقيني أنك لن تقرأ هذا إلا بعد مدة طويلة، ولكني أحس بأن هذا جميل، ها هي ليلة من حياتي أضعها كاملة بين يديك، ستمضي هذه الليلة بالنسبة لي، وستأتي بعدها ليالي عديدة، ولكن بالنسبة لك يمكن أن تحتفظ بهذه الليلة كما كتبتها أنا، أتمنى أن أقرأ بدوري بعض أيامك ولياليك.

لم أتعب من الكتابة لك، ولكني أظن أنك تعبت من القراءة لي، أنت لازلت تعبا ً من أثر السفر أذهب لتنام الآن، وستكون هناك رسائل أخرى بإذن الله، وداعا ً الآن، سأتفرغ للملل.

تصبح على خير.

))

* * *

نحن فقط من نتساءل ما الذي حدث؟ حمد لا يبدو أنه يتساءل بتاتا ً عن أي شيء، يبدو أن أيام التساؤلات والقلق ولت بالنسبة له، وبقيت له الآن أيامه التي يقطعها مع مجروحة أو فاطمة كما أخبرته باسمها فيما بعد.

خلفت له تلك الليلة العاصفة مع سعد قطيعة وأياما ً وليالي من التساؤلات، كانت تساؤلات كثيرة ومجنونة، ولكن بمرور الوقت وغياب سعد الكامل، وحلول مجروحة في محله بدأت تلك التساؤلات تخفت بقوة حتى صارت ذكرى عارضة في هذه الأيام الأخيرة من العطلة الصيفية التي بدت له أطول من المعتاد.

كانت تلك الليلة فيصلا ً، فسعد لم يظهر بعدها، لا في المسينجر ولا برسالة، لم يتصل به هاتفيا ً، لم يسمع أي شيء عنه من ذلك اليوم، كأنما هو اختفى تماما ً، كان حمد يعلم بأنه موجود من مشاركاته التي يراها من وقت إلى آخر في المنتدى، ولكنه لم يحاول الاحتكاك به، أو التعامل معه، أو الرد عليه، وذلك قبل أن يهجر المنتدى إلى منتدى آخر بناء على دعوة من فاطمة.

كان المنتدى الجديد منتدى ناشئا ً قليل الأعضاء، أكثر مواضيعه منهوبة من منتديات أخرى، أو مواضيع مكررة ومملة، ولكن حمد بدا سعيدا ً لأن كل أعضاء المنتدى بدوا طبيعيين، حمقاء قليلا ً بما يريح أعصابه بعد كل تلك المعاناة مع الأذكياء والنابهين، ثم إن مجروحة معه هنا وهذا يكفي.

كان حمد لأول مرة متشوقا ً لبدء الدراسة، كان متحمسا ً لإصلاح علاقته بمروان، أن يقص حكايته مع سعد على مسامعه، كان يتخيل ابتسامة مروان التي تعني ( هماي قايل لك) عندما ينهي القصة وهو يقول بخبث ومداهنة ( والله يا ليتني سمعت كلامك من البداية يا مروان كان أرتاح قلبي ولا دخلت في هالمعمعة)، ويتخيل مروان وهو يحاول إخفاء انتشائه بعودة الابن الضال إلى مرابع القبيلة.

كانت أيام الصيف قد بدأت بالنفاذ، واقترب فصل الربيع أم هو الخريف؟ الحقيقة أن تلك الفصول الأربعة التي درسها في كتاب العلوم للصف الأول، والتي لازال يتذكر الصور المعبرة عنها، صورة المرج التي تعبر عن الربيع، والشتاء الذي صور ثلوجا ً تغطي الأشجار، وصورة أوراق الشجر الحمراء المتساقطة التي كانت تشير إلى الخريف، وصورة الشمس اللاهبة التي تعني الصيف بدت بلا معنى عندما كبر، لا أحد يستطيع التمييز إلا بين فصلي الصيف والشتاء، أم الربيع والخريف فهما مضمحلان ومختلطان تماما ً، ثم أينها الثلوج وأينها المروج الخضراء؟ ليتهم درسونا واقعنا.

بالنسبة له لا أهمية لذلك كله، المهم أن الصيف سينقضي وسيعودون من جديد إلى البر، إلى مخيمهم، ستعود تلك الليالي التي يضحكون فيها بعمق، تلك الليالي التي يحمل لهم فيها الهواء رائحة النباتات أنضجتها الشمس ورواها المطر، وسيعود هو إلى جذع الشجرة الذي يحبه كثيرا ً، سيعود ليحكي له حكايات الصيف التي أحتبسها في صدره طويلا ً.

سيحكي حكاية ذلك الذي كان يوما ً محور أفكاره ومالئ دنياه بأقواله وأفعاله، وكيف صار اليوم طللا ً باليا ً، سيحكي للجذع حكاية التي صارت الآن ملح لياليه، حكاية التي علمته جمال الأشياء الصغيرة، ذلك الجذع... موعود بحكايات شتى.

سؤال واحد فقط، وحكاية واحدة لم تنتهي بعد، كجمرة دفنت على عجل، كانت الحكاية مجروحة وأما السؤال فكان... وماذا بعد؟
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
الفصل الثالث والعشرون – الأخير
الفصل الأخير

حرك الرماد المتخلف من رسائلها المحروقة بعود صغير، فانقلبت ورقة لم تحترق بالكامل، استطاع أن يلمح فيها عبارة ( فتنطلق روحانا إلى أبواب السماء)، نخسها بعوده ليعيدها إلى الجذوة الراقصة ويراقب حروفها وهي تتلوى وتذوي.

عندما احترقت آخر ورقة، رفع عينيه إلى الأفق أمامه وجعل يرقب خط التقاء السماء القاتمة مع الكثبان الرمادية، ولسعه الهواء البارد الذي يهب بعنف حاملا ً ذرات الرمل، منذرا ً بعاصفة مطيرة.

نهض ومشى متثاقلا ً تغوص قدماه في رمال النقرة التي أودع باطنها حبه، دفن هنا أجمل أيامه وولى، حرق هنا كل ما يذكره بها، رسائلها، خصلة شعرها، الكرت المزخرف المعطر، القلم الجاف الذي نقش عليه الحرفان الأولان من اسميهما.

ركب سيارته وانصفق الباب بدفع الريح التي بدت بدورها وكأنها تصفعه وتصفع سيارته بالرمل، قبع في الدفء خلف الزجاج يرقب هياج الريح خارجه ويسمع أنينها، ورأى من مكانه بقايا الرماد الذي خلفه والرياح تحمله لتذروه في مكان بعيد.

بدأت قطرات المطر تشارك الرمل في صفع زجاجه، تساءل بحزن ما هذا أيتها الريح ألا يكفي أنك ِ أدمعت ِ عيني بذرات الرمل حتى تبصقي علي الآن، طفر الدمع في عينيه فلم يمنعه، تركه ينزلق على خديه، يتخلل منابت لحية لم يحلقها منذ أسبوع.

وهناك، بين كثبان رملية ضخمة ترقد شمال الرياض، ووسط وادي قفر لم يذق رائحة المطر منذ سنين، وتحت زخات مطر مدرار، نسي قسمه بأن لا يبكيها، نسي رجولته الوليدة، نسي كبريائه وأنفته، وانطوى في مقعد سيارته الضيق ضاما ً رجليه إلى صدره كجنين خرج من بطن أمه قبل أوانه، وترك عينيه وأنفه تجودان بمائهما كما جادت السماء في ذلك اليوم المدلهم من حياته.

عندما توقف المطر، وهدأت الرياح، نزل يجر قدميه على الرمل الذي بدا متماسكا ً بقوة كأنما سد ماء المطر كل مساماته، كانت الكثبان الشهباء قد صارت الآن حمراء بلون الدم العبيط.

وصل إلى محرقته الصغيرة، التي نثرت الرياح معظم بقاياها وذرته في البرية، كان القلم المسود الأطراف يرقد هناك في بطن النار الموءودة، وقد غيبت النار جل ملامحه وغطته ذرات رمل وجدت فوق بقاياه ملجئا ً من الماء المنهمر.

كان قد تبقى طرف من القلم يلمع كشاهد على الأيام التي كان فيها يرقد هناك في جيب ثوبه العلوي، مجاورا ً قلبه، عندما كان قلبه عالما ً هائلا ً يضم مدن من الذكرى، وسهوبا ً من العواطف، وحكايات ليل آفل.

لم تكن المحرقة التي تتبدى أمام عينيه الآن هي المحرقة الأولى، بل سبقتها محرقة أكبر، محرقة في قلبه، أحرق فيها كل مدنها، وأشعل الحرائق في السهوب التي كان يظن أنها ستورق يوما ً لتكون بساتين وحدائق، نحر بعنف كل ذكرى لها، كل كلمة، كل تعبير، كل رسالة، كل محادثة، نحر كل وجودها الطيفي في حياته قبل أن يلتفت لوجودها المادي ويحمله إلى هنا.

عض شفته بقوة القهر والحنق، عضها عن كل ليلة قضاها ينتظرها، وعن كل ليلة قضاها معها، كاد يبكي خجلا ً من كل كلمة من كلماتها هزته أو بعثت فيه قشعريرة أو حلقت به حبا ً فوق الغمام.

عقد يديه على صدره مرتجفا ً من الهواء البارد الذي هب في تلك اللحظة، هواء الشتاء الذي ولى، والذي حمل معه بقايا ورقة تخلصت من غصن أثقل كاهلها طويلا ً فحملتها الرياح في طريقها، وتابعتها عيناه وتساءل " ما الكذب الذي كان فيها يا ترى؟" هل كان فيها ( أحبك يا حمد بعدد دواوين الشعر) أم ( أحبك، كلمة لم أظن أني سأقولها يوما ً) أم ( حمد لقد علمتني معنى آخر للحب).

" كذب... كذب... كذب... كيف استسهلت الكذب علي؟ كيف استطاعت النطق به؟ كيف فعلت هذا؟ كيف؟".

" لأني أحمق... أليس للكذب رائحة؟ أليس له طعم؟ كيف لم تزكم أنفي رائحته عندما خالطت رائحة الليل النظيفة؟ كيف فرت مرارة الكذب من لساني؟".

عاد الهواء يهب بقوة مخترقا ً عظامه، فغادر المحرقة، ثم غادرتها عيناه ووجه نفسه إلى سيارته، ضمه الدفء مرة أخرى، ولكن الرجفة لم تبرح جسده، وحالما نزلت سيارته الكثيب الذي كانت تشرف منه على الأشياء، بدأت قطرات المطر في تغطية كل الموجودات وفي إغراق زجاج سيارته الأمامي.

والسماء صارت بيضاء كراحة يد طفل، ولكنه كان في شغل عن هذا كله، مضى بالتعود والغريزة يرتقي الكثبان ثم يتحدر منها، وهو غارق في روحه الموحلة التي لا يغسلها المطر.

بدا له الطريق المسفلت بعيدا ً بعدما تجاوز آخر الكثبان وخرج على الأرض المنبسطة التي تحولت أرضها إلى قيعان وبحيرات صغيرة، دفع سيارته بقوة وحاور الماء والطين ومضى يثب كما تثب سيارته حتى خلص إلى الطريق المغسول اللامع.

اندفع في الطريق بضعة أمتار ثم انتبه أنه يمشي في الطريق المعاكس، هدأ من سرعته ثم انحرف إلى جانب الطريق حتى يمنح السيارة الصغيرة خلفه فرصة تجاوزه، وقف على جانب الطريق لحظات منتظرا ً عربة النقل الضخمة التي جاءت ترج الأرض بقوة وتقذف على زجاج سيارته الأمامي أخلاط الماء والطين.

امتدت يده إلى المسجل ودفعت شريط ( يا رجائي) الذي كان يبرز رأسه كنبتة صغيرة، لحظات وجاءه صوت ( مشاري العرادة) مترنما ً:

( فرشي التراب يضمني وهو غطائي

حولي الرمال تلفني بل من ورائي

واللحد يحكي ظلمة فيها ابتلائي

والنور خط كتابه أنسي لقائي)

استوت سيارته في طريقها، ولكن روحه بقت في تهويمها وحزنها، لا يعلم لم َ يحب الاستماع لهذا النشيد؟ رغم أن كلماته لا تناسب كثيرا ً من أوقات حزنه، ولكنه يحس دوما ً كأن الكلمات تتغير دوما ً وتتبدل لتناسبه.

( والأهل أين حنانهم باعوا وفائي

والصحب أين جموعهم تركوا إخائي)

حقا ً يا مشاري... ما أسهل أن يتركك الناس، ما أسهل أن يخونوك، أن يبيعوا وفائك وقلبك، ما أسهل هذا كله.

( والمال أين هنائه صار ورائي

والاسم أين بريقه بين الثنائي

هذه نهاية حالي فرشي التراب يضمني وهو غطائي

والحب ودع شوقه وبكى رثائي

والدمع جف مسيله بعد البكاء ِ

والكون ضاق بوسعه... ضاقت فضائي

فاللحد صار بجثتي أرضي سمائي

هذه نهاية حالي... فرشي التراب

فالخوف يملأ غربتي والحزن دائي

أرجو الثبات فإنه قسماً دوائي

والرب أدعوا مخلصا ً أنت رجائي

أبغي إلهي جنة فيها هنائي).
 

ضوى العيون

New member
إنضم
7 أغسطس 2006
المشاركات
5,999
مستوى التفاعل
0
النقاط
0
كانت البداية في بطن ليلة، كانا قد وصلا حينها إلى مرحلة التعلق، حيث لا تعود الرسائل والمحادثات المطولة كافية، حيث تمضي العواطف كالخيل المتفلتة بلا أعنة، وحيث تنحصر الحياة بين إرسال الرسالة أو العبارة وانتظار الرد.

جاءت تلك الليلة متأخرة، لمس ألمها وحزنها حال دخولها، وعلم عندما صار يستبطأ إجاباتها ويستغرب اقتضابها أنها تبكي، علم أن حروفها التي تبرق على شاشته تحمل لمعة الدموع على خديها، وتشي بأنين قلبها المحروق.

كانت حزينة ومتألمة، كسيرة الطرف، جاءت تحمل معها يوما ً خانقا ً، وذكرى صديقة لم تعد كذلك، تركت روحها لحمد يواسيها وينسل منها تعاستها وألمها، كانت كلماته رقيقة مواسية، فتح لها قلبه وعزاها عن فراقها الوقتي لصاحبتها بحكاية فراقه مع صنوه ( ابن عمه) الذي توفي قبل سنوات، استرجع معها ذكريات الحزن، والأيام التي بث فيها حزنه شجرته تلك التي يضمه جذعها.

عندما رحلت فاطمة بعجل تلك الليلة، كانت قد خلفت له شيئين كلمة ( أحبك) على الشاشة، وحيرة واضطرابا ً عصفت بليلته تلك ويومه التالي.

هل كان حبا ً ذاك؟ أم كان عاطفة بلا اسم؟ لا أحد يعلم، كل الذي يعلمانه هو أن الحديث بينهما خرج عن السيطرة، وأن كلمات الحب صارت مبثوثة في تلك الرسائل والمحادثات.

صار يعرف عنها كل شيء، وصارت تعرف عنه كل شيء، تبادلا المعلومات بلا توجس أو حذر، كأنما يريدان جمع روحيهما بتلك الروابط البائسة.

ثم جاء الوقت الذي انفلقت به البذور وأطلت براعم العلاقة من تحت التربة، كان الخريف قد جاء وعاد الصحب إلى مخيمهم ذاك، عادوا بذات الروح التي تجمعهم دوما ً، والأيام وطول الافتراق قد أصلحت بعض ما بين حمد ومروان.

مضى حمد لأول نهاية أسبوع يقضيها في البر منذ الربيع الماضي، لم يستطع إغماض عينه في أول ليلة، ظل يتقلب في فراشه، وفاطمة في ذهنه، ماذا تفعل الآن يا ترى؟ كيف تقضي ليلتها من دوني؟ هل تدخل الانترنت؟ أم تعتزله حتى عودتي مساء الجمعة كما أخبرتها؟.

في صباح الغد الذي كان أقرب إلى صباح شتاء مبكر منه إلى صباح خريفي معتدل، اضطر حمد إلى إثقال نفسه بالثياب قبل الخروج في جولته الأثيرة، في ذلك الصباح كبلته نفسه بالتفكير وكاد الشوق يجره إلى الرياض.

عندما عاد مساء الجمعة وجد بريده مكتظ بالرسائل، وفاطمة تنتظر، تساءل حمد هل سيكابدان هذا الشوق في كل نهاية أسبوع؟ وجد الإجابة مباشرة في رقم هاتفها المحمول الذي تألق على الشاشة لحظتها.

كتبت ( لا تتصل أرجوك... لنتبادل الرسائل فقط، أفتقدك كثيرا ً، وأريد أن يكون بيننا رابط عندما تغيب عن الانترنت)، لم يجسر على تدوين الرقم في جهازه، حفظه في ذهنه فقط، وأرسل لها ( شكرا ً لك ِ، كنت خجلا ً من طلبه منك ِ، كنت أخشى أن يفسر الطلب بطريقة أخرى).

عندما حلت نهاية الأسبوع التالي، وصلته الرسالة الأولى عندما ترك أبنية الرياض خلفه، ثم تتالت الرسائل في تلك الليلة وفي اليوم التالي حتى اضطر إلى تحويل وضع الجهاز إلى الوضع الصامت حتى لا تفضحه كثرة الرسائل بين أصدقائه.

ثم جاءت نهاية الأسبوع تلك التي فرغت فيها بطارية جواله، كان قد نسي شحنها في اليوم السابق قبل مغادرة الرياض، فصار جواله كقطعة حجر بلا معنى، ألقاه في السيارة بحسرة وضيق.

وعندما عاد الجمعة، بادر إلى وصل الجوال إلى الكهرباء، وحالما اشتغل الجوال بدأت الرسائل تترى إلى جواله، فكر أن يقرأها مرة واحدة، فترك الجوال يهتز ويومض في ظلام الغرفة وخرج لبعض حاجته.

عندما عاد بعد دقائق استغرب أنه لازال يومض، تساءل " كم رسالة أرسلتها يا ترى؟ يا لهف قلبي عليها، لقد قلقت علي"، ولكن موجة باردة عبرت ظهره حالما وصل الجوال واكتشف أن الوميض لم يكن رسالة بل كان اتصالا ً، كان رقمها يهتز ويدق على الشاشة كدقات قلبه.

وضع سماعة الجوال على أذنه بتردد وضغط زر الإجابة، فجاءه صوتها الهامس

- السلام عليكم.

حالما وجد صوته أجاب:

- وعليكم السلام.

- حمد؟

- نعم.

- وينك؟ حرام عليك، انشغل بالي عليك.

- آ... كنت في البر والشحن مخلص ولا فيه شاحن أشحن فيه.

- آسفة على إزعاجك، حبيت أتطمن بس... مع السلامة.

بقي صوتها في أذنه طويلا ً، صار يحمل نبرتها الخافتة معه في الصباح والمساء كترنيمة، وصار يتمنى في قرارة نفسه أن تعاود الاتصال به، ورغم أنه كان أحيانا ً يتعوذ من وسوسة الشيطان وكيده إلا أنه لم يستطع منع نفسه من الأمل.

ثم جاءت نهاية أسبوع أخرى، وردته رسالة منتصف الليل وهو في فراشه بين الأغطية والدفء، كان شخير أصحابه يتجاوب في ظلام الخيمة عندما برقت الرغبة في ذهنه بسرعة، أراد أن يودعه صوتها إلى عالم الأحلام، حاول قهر أصابعه ولكن رغبته تغلبت على كل شيء، منهي دينه، صوت عقله، والدفء الذي لا يجتلب بسهولة.

كانت البرودة تغطي كل شيء في الخارج، وترزح تحت ثقلها الموجودات، وجمر ليلتهم المنقضية يلمع بين الرماد وهو يلتصق بدلالهم المسودة، دفع قدميه بجواربهما السميكة إلى نعلي مروان الواسعين القريبين ولف جسده بالفروة السابغة الدافئة وخرج.

جمع أنفاسه المتفرقة وطلب الرقم المستحيل، دهمه الصقيع فارتعش إثارة وبردا، وقف هناك بجانب الوتد المغروس إلى نصفه، يسمع صوت الرنين على الجانب الآخر، وسخونة يده التي تحتضن الجوال تنفذ إلى أذنه، تساءل " هل ستجيب؟"، عندها توقف الرنين وجاءه صوتها هامسا ً:

- هلا.

- السلام عليكم.

- وعليكم السلام.

- آسف لأني اتصلت بس ما قدرت أمنع نفسي من إني أقول لك تصبحين على خير.

- وأنت من أهل الخير.

- مع السلامة.

- مع السلامة.

كان حوارا ً قصيرا ً ليلتها، ولكنه فتح الباب وشرعه لحوارات أطول وأكثر وأجرأ، استبدلا موعدهما الليلي على المسينجر بآخر على الهاتف، واندفعا في كلمات بلا حساب، وصارا يتنافسان في نضح مشاعرهما بلا روية.

كان حمد يتوقف أحيانا ً ليتساءل" إلى أين وصلت؟"، وكان يتعرض لصراع ضخم ينهكه بين دينه وأخلاقه وبين رغبته وهواه، ويمضي يجادل نفسه بقوة " ألا تخاف ربك؟ هل ترضاها لأختك هيلة؟ هل ترضى لأحد أن يقول لأختك ما تقوله أنت لبنت الناس؟ ألا تخاف الله؟" ثم يعود ليقنع نفسه " ولكن أنا لا أضمر لها شرا ً، ولم أقل لها أي كلام مبتذل، هي مشاعري فقط أخبرها بها، أنا ليس لي نوايا كما الشباب الآخرين، علاقتنا قائمة على المحبة والتفاهم".

وكانت فاطمة بدورها تتساءل كل يوم عن حالها، كانت مشاعرها نحو حمد أقوى من كل أخلاقياتها ومن كل ما تعلمته أو هذا ما كانت تظنه، وكانت تتساءل " هل هذا هو الحب؟ هل تحب حمد؟ ولكن كيف تحبه وهي لا تعرف عنه إلا ما يخبرها به؟ ثم كيف تأمنه على نفسها؟ كيف تأمن من يجترأ على محارم الله على نفسها؟" ثم تعود لنفسها قائلة " ولكن حمد طيب، وهو يحبني"، ولكن كيف أعرف أنه يحبني هل يكفي قوله؟ هل تكفي كلماته؟

ثم تطورت العلاقة بينهما عندما أخبرها حمد باعتزامه تقديم هدية لها، قال لها في ذلك اليوم بعدما اعترضت:

- فاطمة... هي هدية بسيطة، عبارة عن قلم يحمل الحرفان الأولان من اسمينا ( ح و ف)، أريد أن يرمز القلم إلى علاقتنا التي بدأت من الكلمة ومن القلم.

- حمد... صدقني هديتك وصلت بدون حتى ما أستلمها وشكرا ً لك على ذوقك.

- براحتك... لو حبيتي تشوفين ذوقي فيه محل هدايا موجود في (.......) لوحته زرقاء، أرسلي أحد أخوتك ليستلم الهدية منه، قولي له أن صديقتك ِ تركتها هناك.

كان حمد قد عبث الآن بالفضول الأنثوي العتيد، ولذلك لم تطق فاطمة صبرا ً، وأرسلت على وجل أخيها الصغير إلى المحل وأوصته بالسرية في الحصول على هدية صديقتها حصة ( زعمت لتبرير حرف الحاء) ووضعت بين يديه مظروفا ً صغيرا ًَ ملفوفا ً بعناية ومعطرا ً، وأوصته أن يتركه هناك مكان القلم.

وكان ذلك المظروف الصغير كرتا ً مزخرفا ً كتبته بخطها ولفته بخصلة من شعرها، ورشته بشيء من عطرها، لتتركه أثرا ً بين يدي حمد يدله عليها، شيء يحمل روحها وشيئا ً من جسدها ورائحتها.

وهكذا مضت بهما الأيام، ودعا صيفا ً وخريفا ً سادرين ثم استقبلا شتاء ً تدفئه علاقتهما، حتى كان ذلك اليوم.

وردها اتصال من صديقة قديمة ( مي) منذ أيام الدراسة الجامعية، ثرثرتا طويلا ً على الهاتف وأطلقتا كثيرا ًَ من الزعيق وهما تتذكران أيام الجامعة وأخبار فلانة وعلانة، وفلانة التي تزوجت وفلانة التي تعمل في كذا، ثم أخبرتها صديقتها بأنها تنظم لشبه اجتماع أو حفلة لصديقاتهما القديمات في استراحة والدها الفخمة قرب مخرج تسعة، وانتهت المحادثة بوعد من فاطمة بالحضور.

بدأت فاطمة بعدها مرحلة إقناع أمها وأبيها بالذهاب، وبعد المحاولات الأولية الشهيرة بـ ( وشوله بس اقعدي، والله إن بنات هالوقت ما بهن بركة... إلخ) وافق الأبوان على ذهابها.

استعدت ذلك اليوم جيدا ً، أمضت ساعة كاملة في اختيار ملابسها، وتسريح شعرها، ربما كان في اهتمامها الزائد شيء من بقايا الدونية التي كانت تشعر بها أيام الجامعة عندما كانت المنافسة في التسريحات والأزياء على أشدها، وكانت هي حينها تتكئ على المكافأة الضئيلة، لا على راتبها الجيد الآن الذي صار يوفر لها كثيرا ً مما لم تكن توفره لها الأيام الماضية.