- إنضم
- 16 يوليو 2010
- المشاركات
- 4,416
- مستوى التفاعل
- 3
- النقاط
- 0
ليس من قبيل الصدفة أن تحظى رواية خالد حسيني الأولى عدّاء الطيارات The Kite Runner باستقبال حافل في أنحاء العالم لأسباب عديدة فقد تصدرت قائمة الكتب الأفضل مبيعا، ووزعت في أكثر من أربعين بلدا بلغات عديدة، واتفق الكثيرون على أن هذا الطبيب الأمريكي الشاب من أصل أفغاني متمكن من تقنيات السرد ومن أدواته، وأنه قدم للقارئ الغربي بالذات وهو المولع أبدا بثقافات الشرق الغريبة عنه وما تحويه هذه المجتمعات من أسرار وغموض، وبالأخص بعد أحداث سبتمبر المريعة التي غيرت الكثير من المفاهيم، أسلوبا سرديا شيقا يتعلق بثقافة ومجتمع طالما شد انتباههم وعمّق حيرتهم. ورأى كثير من النقاد أن أسلوب حسيني في روايته الأولى، وفي هذه الرواية ألف شمس مشرقة A Thousand Splendid Suns يغوص عميقا في العلاقات الإنسانية الشائكة، فيحول خصوصية أبطاله إلى الحالة الإنسانية العامة الموجودة في مختلف الثقافات والأمكنة، وهو كذلك يزاوج بمهارة بين إماطة اللثام عن أسرار الثقافة الأفغانية المجهولة للكثيرين، وبين رصد تاريخي دقيق لما مر به بلده الأصل من حادثات مأسوية مدمرة.
وُلد خالد حسيني في كابول عاصمة أفغانستان في العام 1965، وعاش فيها طفولته كما عاشها (أمير) بطل روايته الأولى، وكانت المدينة في ذاك الزمان منفتحة على العالم، تحوى جامعة ومراكز ثقافية ودور للسينما، وتوفر فرص التعليم للإناث والذكور على حد سواء. كان والده دبلوماسيا، ووالدته تعلم اللغة الفارسية، فأتاح ذلك للعائلة الاختلاط بعدد كبير من الشعراء والكتاب ونخب المجتمع المتعلمة، حتى تاريخ هجرة أسرته إلى الولايات المتحدة بعد الانقلاب الشيوعي في 1980 حيث واصل تعليمه وصار طبيبا.
يتعرض حسيني في هذه الرواية إلى العديد من الحادثات الجسيمة التي مرت بها أفغانستان، بدءا من الغزو السوفييتي وما تلاه من تناحر الجهاديين، ثم مرحلة طالبان المظلمة وأعقابها، ولا يملك القارئ إلا التعلق بوقائع حياة بطلتيها مريم وليلى وتتبع معاناتهما على مدى ثلاثة عقود في صراعهما من أجل البقاء والبحث عن السعادة في مجتمع ظالم يعيش الحرب الأهلية والانقسام، وتتعرض فيه الإناث إلى عسف وجور يتعذر وصفهما، ويورد الراوي مواقف مؤثرة تلامس مكنون النفس البشرية، وتدفع القارئ إلى الاقتراب أكثر من الشعب الأفغاني صاحب التاريخ العريق، من خلال ما مر به من محنٍ أتت على البلد وأهله من خلال صراعات مذهبية وعرقية طالت الكثيرين فذهبت بإنسانيتهم وحولتهم إلى وحوش بشرية.
وفي حين ركزت رواية عداء الطيارات على الصداقات بين الذكور وعلاقات الأبناء بالآباء، فإن هذه الرواية تتعرض للأمهات وبناتهن، وإلى الصداقات بين النساء. من البداية يأخذ المؤلف على عاتقه إماطة اللثام عن الورطة التي تعيشها الأفغانيات، ومن البداية تتحدث أم إحدى البطلتين بنبوءة عجيبة عن (أمثالنا في هذه الحياة) وهي تعني الفقيرات وغير المتعلمات اللاتي عليهن تحمل مشاق الحياة، وظلم الذكور، وازدراء المجتمع.
لا شك أن هذه الرواية عن أفغانستان، لكنها أيضا تعبر بكل وضوح عن معاناة الأبرياء مع كل تناطح يقوم به الأقوياء، وهو ما ينطبق على الكثيرين مثلهم في أصقاع الأرض.
في آخر صفحة من الرواية يذكر الكاتب الأفغاني خالد حسيني، أن عنوان الرواية «ألف شمس مُشرقة» أتى من قصيدة للشاعر صائب التبريزي، وهو شاعر أفغاني من القرن السابع عشر.
لا يمكن قراءة هذه الرواية (ترجمة مها سعود، وصادرة عن دال للنشر والتوزيع)، إلا ويشعر القارئ بأنه مخطوف الأنفاس، وفي قلب الجحيم، لدرجة تساءلتُ مراراً أليس من المعقول أن يكون الجحيم هو الحياة على الأرض، وأن البشر واهمون إذ يتخيلون أن الجحيم هو في مكان آخر!!
صحيح أن القصة التي تدور حولها أحداث الرواية، عن امرأتين أفغانيتين، مريم وليلى، مريم ابنة الحرام، لرجل أفغاني ثري، له ثلاث زوجات، لكنه إثر علاقة عابرة مع امرأة وضيعة، وجد نفسه أباً لطفلة، لم يجرؤ على الاعتراف بها، لأنه سيشوه سمعته وسمعة زوجاته الثلاث وأبنائه، فعاشت مريم مع أمها، حياة بائسة لكنها كانت تحب والدها كثيراً، وتحلم بأنه ذات يوم سوف يفتح له بيتها... لكنه بعد وفاة أمها منتحرة، أسرع بتزويجها من رجل يكبرها بأكثر من ثلاثين سنة، أرمل وله ابن توفي غرقاً... تذعن مريم لمشيئة والدها وتكتم ألمها بالنبذ والتخلي، وتعيش مع زوجها خادمة... ولم تنجح بأن تنجب له ولداً، فاتخذ من ذلك عذراً لضربها وتحقيرها ومعاملتها كما لو أنها حيوان، وتفجر حقده عليها ساحقاً ومروعاً، لدرجة أنه أجبرها ذات يوم أن تمضغ الحصى رغماً عنها، مستمتعاً بصوت تكسّر أسنانها...
ليلى هي زوجته الثانية، التي شهدت موت أسرتها، بسبب الحرب الدائرة بين المجاهدين والسوفيات، والتي لم تمت بالصدفة رغم إصابتها بشظية في ظهرها، ليلى التي كانت حاملا من طارق، الشاب الذي أحبته وأفقدته الحرب ساقاً...
الحرب والموت
القدر يجعل ليلى تتزوج من رشيد، زوج مريم الذي أنقذها من تحت الأنقاض، وسال لعابه لجمالها ونضارتها وشبابها، فعرض عليها الزواج، قبلت لأنها وحيدة، خسرت أسرتها وحبيبها، الذي اعتقدت أنه مات.
الرواية تسبح في بركة من الدماء والجثث والقصف والدمار: أم تلم أشلاء ابنتها التي أصابتها قذيفة أو صاروخ طائش، حروب دائرة لا تنقطع، السوفيات يقصفون، والمجاهدون الأفغان يقاومون، تندحر الشيوعية، ليستلم المسلمون الأفغان الحكم، يصدرون أحكاماً متشددة ويرسمون حياة الناس، المرأة يجب أن تلزم البيت، وألا يرى وجهها إلا زوجها، العمل والتعليم محرّمان على المرأة، الموسيقى حرام، كذلك السينما والتلفاز. اضطرت عائلات عديدة لحفر حفر في حدائق المنازل لطمر التلفزيونات، من تجرؤ وتخرج من البيت وحدها، تُقتل بالعصي التي يحملها رجال طالبان، الذين يحمون الشرف. التماثيل حرام، تُحطم تماثيل بوذا في باميان، الرجال بدورهم يجب أن يطلقوا لحاهم، وأن يصلّوا ويلتزموا بالفروض الدينية المطلوبة... رجال ونساء يُسحقون بسبب عقلية متخلفة تسحق إنسانية الإنسان، وتحوّل البشر إلى قطيع مسعور، مجنون، يتعامل مع بعضه البعض بحيوانية، رشيد الزوج المسحوق كإنسان، المُهمش، والذي يشهد بلده يُقصف ويتعرض للدمار والمجاعة، يفقد إحساسه بإنسانيته، يتحول لوحش، يفرغ أحقاده بزوجتيه ليلى ومريم، يضربهما ضرباً مبرحاً، وفي لحظات عديدة كاد يقتلهما... الزوجتان اللتان تحولتا لصديقتين، لمقاومة طغيان وحش اسمه الزوج، حاولتا مراراً الهرب منه، لكن محاولاتهما فشلت وعادتا إلى قفص الزوج الجلاد... الذي حين اكتشف أنه ليس الأب الحقيقي لابنته من ليلى، كاد يقتلها، فما كان من مريم التي تحمّـلت فوق طاقتها القهر والظلم والضرب، إلا أن قتلته...
المدهش في هذه الرواية، الزاخرة بالظلم والحرب والموت، والتشرد، حيث يهرب أكثر من مليون أفغاني من جحيم الحرب إلى باكستان، ويعيشون هناك لاجئين وبحالة مزرية، المدهش هي تلك البذرة الإلهية التي لا تموت، المزروعة في قلوب نساء أفغانستان. مريم ابنة الحرام، وليلى التي أنجبت ابنة حرام، امرأتان مسحوقتان، تُعاملان كما لو أنهما من الحيوانات، حرمتا من التعليم، تمنعان من الخروج من المنزل، تضربان بوحشية من قبل زوج، فاقد للإنسانية، لأنه بدوره ضحية عقلية مجرمة، تشوه الإسلام وتسن قوانين لاإنسانية والدين منها براء... وسط هذا الجحيم الأسود، يومض ضوء عنيد، ضوء الأمل، والتوق للإنسانية. يشبّه الكاتب مريم بأنها امرأة كالصخرة في قاع النهر، امرأة تتحمل حتى النهاية، دون شكوى، لكنها معجونة بالتمرد الذي يسكنها، شيء جوهري عميق في داخلها لم يستطع أحد كسره، شيء عنيد صلب كحجر الصوان.
أليس هذا الشيء العنيد هو صورة الله المرتسمة في قلوبنا، إحساسنا الفطري بالكرامة الإنسانية، بأننا يجب ألا نرضى الهوان والقهر والظلم والإجرام... لا تملك ليلى ومريم سوى ذلك الحس الفطري في أعماقهما، سوى تلك العناية الإلهية التي تحفظهما بطريقة غامضة، وتجعلهما قادرتين على تحمل وحشية حياة بالغت في قسوتها وساديتها...
ملحمة إنسانية
مريم ابنة الحرام، التي نبذها والدها، وتحملت ظلم زوجها وحقده ومعاملته لها كحبوان، وضربه المبرح، مريم قتلته أخيراً، لأنه كان يريد قتل ليلى، ليلى التي أحبتها كأخت، والتي صارت دنياها، لأنها أيضاً أنجبت طفلة ابنة حرام... إن مريم ترى في ابنة ليلى نفسَها وقدرها...
نساء مسحوقات معزولات، معنـّفات، محرومات من العلم والتفكير والمعرفة والفن، ومع ذلك يقاومن، بطريقة مذهلة وسحرية، كما لو أن عصا سحرية تمس عقولهن وتشحنها برغبة الانطلاق في فضاء حُرّ. نساء رغم وحشية وقسوة الحياة، يجرؤن على الأمل، ويمتلكن شجاعة الحلم...
لكن خالد حسيني يذهلنا بقدرته على وصف مشاعر النساء، والألم الذي يسحق أرواحهن وأجسادهن حين يتعامل معهن الرجل بفظاظة وحيوانية...
صحيح أن ألف شمس مشرقة تحكي عن مأساة الشعب الأفغاني، عن الثمن الباهظ الذي دفعه ويدفعه هذا الشعب نتيجة الحروب العديدة والصراعات الدائرة باستمرار على أرضه، شعب يُسحق، نساء وأطفال يموتون، ويُعطبون، وأسر تفرّ هاربة إلى الحدود الباكستانية والإيرانية، جحيم أشبه بالرحى تطحن الناس... لكن ليست أفغانستان وحدها، هناك دارفور، وغزة، وصراعات عديدة في جنوب افريقيا...
إنها رواية ملحمة إنسانية تجعلنا نطأطىء رؤوسنا مثقلين بالإحساس بالخزي والعار لما يحدث على سطح الأرض، عالمنا، الذي يغلي بالقسوة والدمار والعنف، شيء فوق التصور، ومع ذلك يعمّ الصمت، الصمت هو الجريمة الأكبر... متى سيصحو ضمير العالم، ليبدد ظلمات الظلم والدمار، ويرأف بهؤلاء الذين يدفعون ثمن أطماع وصراعات الكبار...
متى ستبدد الظلمات لتشرق ليس شمس واحدة فقط، بل ألف شمس مشرقة بالكرامة والعدالة والحب.
صدرت هذه الرواية في تاريخ 22 مايو 2007 وقد لاقت نجاح رائع حيث احتلت المرتبة الاولى في قائمة في قائمة اكثر الكتب مبيعا على موقع امازون وقد استصدرت كولومبيا بيكتشرز موافقة لتصوير فيلم مبني على الرواية، لكن العمل عليه لم يبدأ بعد
التعديل الأخير:
