تعدّ الحماية القانونية للملكية الفكرية الركيزة الأساسية في تشجيع الإبداع والابتكار، إذ يؤمّن ذلك للمبدعين ظروفاً تنافسية وحوافز متجددة لإبداعاتهم واختراعاتهم، ما من شأنه أن يصب في نهاية المطاف في خانة تشجيع الاستثمار وتفعيل الأنشطة الاقتصادية وتحقيق نسب عالية من الجدوى الاقتصادية. وتزداد الأهمية التي توليها الدول حالياً لمجال الملكية الفكرية، انطلاقاً من الدور الذي من الممكن لها أن تلعبه في مختلف الميادين، ولا يخفى أن التفاوت بين الدول في مدى الاهتمام بحقوق الملكية الفكرية وتطبيقها قد أدى إلى تقسيمهم إلى مجموعات متفاوتة في مضمار التقدم والتخلف.
لقد أدرك الإنسان عبر التاريخ أن هناك حاجة لحماية نتاج المبدعين وتقدير أعمالهم، ويعزو الكثير من الباحثين التقدّم الهائل الذي عرفه العالم، لا سيما في ما يتعلق بالصناعة والتجارة إلى نظم حماية الملكية الفكرية سواء بشكلها البدائي أو الحديث المنظم قانونياً. على الصعيد الاجتماعي، للملكية الفكرية دور، أيضاً، إذ تعدّ الحماية القانونية للملكية الفكرية الضمانة الأولى للمستهلك في الحصول على منتجات أصيلة غير مقلّدة أو مزورة، كما أنها تحول دون تعرضه إلى الغش أو الاحتيال، أو أي من الأضرار المالية والصحية التي من الممكن أن تسبب خطراً عليه.
الوضع التشريعي الوطني
وانطلاقاً من هذه المعطيات كلها، كان من الضروري أن يكون للجانب التشريعي الدور المحوري في حماية حقوق الملكية الفكرية. وإذا ما راجعنا التشريعات المتعلّقة بهذه الحقوق في الوطن العربي، سنلاحظ أن الدول العربية اتّجهت إلى التشريع في هذا الإطار منذ زمن بعيد، وهي سعت لأن تشمل التشريعات مختلف فروع الملكية الفكرية، إذ شهدت هذه التشريعات زخماً قوياً في فترات ومراحل مختلفة على مدى العقود الماضية.
ورغم تحسّن مناخ التعريف بحقوق الملكية الفكرية في الوطن العربي والعمل على حمايتها وسن القوانين المتعلقة بالمعاقبة على انتهاكها، لكن الواقع الحالي بخصوص العمل على تطبيق هذه القوانين بشكل فعّال وسليم لا يواكب التقدّم الحاصل عالمياً، وهناك حاجة للعمل على تحديثها بما يتلاءم وحجم الانتهاكات الحاصلة، فبعضها ضعيف ويتضمن ثغرات والآخر لا يواكب التطوّر ويعاني من قصور أو من خلل في التطبيق أو تساهل في العقوبات، وهو ما يلقي بظلاله على النمو الاقتصادي وحركة الإبداع في المنطقة العربية.
ولا يغيّر من جوهر ذلك التطورات الإيجابية التي شهدتها دول عربية عدة في هذا المجال. فمن المعروف للجميع أن عدم توفير هذه الحماية بشكل كافٍ لا يشجع المبدعين بسبب ضعف المردود المادي والمعنوي لإنتاجهم (العلمي أو الصناعي أو الفني) على ضوء سرقتها والتعدي عليها. كما أن أي معالجة آنية لمثل هذه المشاكل المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية لا تكون البيئة التشريعية أساساً للانطلاق بها ستفشل حتماً.
ويمكن اختصار الإشكاليات التي تواجه حماية حقوق الملكية، عموماً، بمستويات ثلاثة:
1 - المستوى الأول: تعقيدات الإجراءات الإدارية ويتضمن هذا المستوى تعدد الجهات الرقابية، وما ينتج عنه من تضارب نتيجة عدم التكامل الوظيفي في الأداء وانعدام التنسيق، التعارض في الاختصاصات، وهو ما يصب في الإطار نفسه، قصور في فهم القائمين على التطبيق من الهدف الحقيقي لحماية الملكية الفكرية، إلى جانب صعوبات أخرى في مجال ملاحقة واتخاذ الإجراءات اللازمة للتصدي للخروقات.
2 - المستوى الثاني: سلبيات بيئة العمل ويتضمن هذا المستوى قلة الخبرة القانونية في مجال الملكية الفكرية وما يتعلق أو يتّصل بها، قلة الوعي بأهمية الحماية والتسجيل، عدم وجود عقود قانونية نموذجية، عدم وجود جهات استشارية فاعلة، قلّة الإحصائيات والبيانات، عدم متابعة القضايا، مشاكل في التمويل.
3 - المستوى الثالث: دور التكنولوجيا إذ أصبح من المعقد جداً هذه الأيام ضمان حماية حقوق الملكية الفكرية والصناعية في ظل التكنولوجيا المتطورة التي يلجأ إليها أولئك الذين يخرقون حقوقها سواء على صعيد خطوط الإنتاج أو خطوط النقل والتوزيع.
الدول العربية والاتفاقيات الدولية لحقوق الملكية الفكرية
وتعتبر معظم الدول العربية عضواً في الاتفاقيات الثلاث الأساسية المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية، وهي اتفاقية إنشاء المنظمة العالمية للملكية الفكرية، اتفاقية «باريس» للملكية الصناعية إلى جانب اتفاقية «بيرن» للملكية الأدبية.
وفي ما يتعلق باتّفاقية «trips» المنبثقة عن منظمة التجارة العالمية (wto)، فهي لا تنطبق إلا على الدول العربية الأعضاء في منظمة التجارة العالمية وعددها 11، أولاها مملكة البحرين التي انضمت إلى المنظمة في 1 يناير 1995 وآخرها المملكة العربية السعودية التي انضمت إليها في 12 نوفمبر 2005، وتحيل اتفاقية «trips» الدول الأعضاء إلى عدد من اتفاقيات الملكية الفكرية التي تديرها الـ«wipo»، وهو ما يجعلها ملزمة حكماً بهذه الاتفاقيات، إذ تقوم الدول المتقدمة، أيضاً، بناء على هذه الاتفاقية بتقديم المساعدة الفنية اللازمة للدول الأعضاء النامية في مجال الملكية الفكرية.
نحو نظام ملكية فكرية فعّال
ولا شكّ أن تقييم الوضع الحالي للدول العربية في مجال الملكية الفكرية يتفاوت بين دولة وأخرى، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون هناك توجه لدى الجميع لبلورة نظام ملكية فكريّة مشترك في العالم العربي من دون أن يخلّ ذلك بالخصوصيات الموجودة لدى كل دولة، فهناك عناصر مشتركة، وهناك حاجة إلى دراسة الوضع في كل دولة على حدة، ثم وضع الأطر القانونية المناسبة لذلك أو تحديث القائمة منها، وجعلها تتكامل في دورها ووظيفتها ضمن الإطار العربي الأوسع ومن ثمّ الدولي الشامل. وهذا يتطلب إيجاد وتشكيل هيئة وطنية مركزية للإشراف على إيجاد وتطبيق هذه الأطر القانونية المتعلقة بحماية الملكية الفكرية، بحيث تضم جميع الأجهزة التي تلعب دوراً في حماية الملكية الفكرية والحد من الانتهاكات التي تتعرض إليها، وما يتعلق كله بعمليات الغش التجاري والتقليد والقرصنة والجرائم الاقتصادية أو الفكرية التي تطول حقوق الملكية الفكرية.
ومن الواضح أن إيجاد هكذا نظام متكامل في العالم العربي ليس بالأمر السهل المنال، ويحتاج إلى جهود كبيرة، لكن مقارنة هذا الجهد المطلوب بالفوائد الإيجابية التي ستصب في مصلحة تقدّم وازدهار التنمية الاقتصادية والصناعية والفكرية في البلدان العربية عبر إيجاد الوسائل الجديدة والمبتكرة والتنافسية سيجعل منها أمراً يستحق العناء.