وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
هذا الحديث الذي ذكره المؤلف - رحمه الله تعالي- في باب الصبر في قصة عجيبة: وهي أن رجلاً من الملوك فيمن سبق كان عنده ساحر اتخذه الملك بطانة؛ من أجل ان يستخدمه في مصالحه ولو على حساب الدين، لأن هذا الملك لا يهتم إلا بما فيه مصلحته، وهو ملك مستبد قد عبد الناس لنفسه كما سيأتي إن شاء الله تعالي في آخر الحديث.
هذا الساحر لما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر.
واختار الغلام لأن الغلام أقبل للتعليم، ولأن التعليم للغلام الشاب هو الذي يبقي، ولا ينسي، ولهذا كان التعلم في الصغر خيرا بكثير من التعلم في الكبر، وفي كل خير، لكن التعلم في الصغر فيه فائدتان عظيمتان بل أكثر:
الفائدة الأولي: أن الشاب في الغالب أسرع حفظاً من الكبير، لأن الشاب فارغ البال ليست عنده مشاكل توجب انشغاله.
وثانياً: أن ما يحفظه الشاب يبقي، وما يحفظه الكبير ينسي ، ولهذا كان من الحكمة الشائعة بين الناس: (( إن العلم في الصغر كالنقش في الحجر)) لا يزول.
وفيه فائدة ثالثة: وهي أن الشاب إذا ثقف العلم من أول الأمر صار العلم كالسجية له والطبيعة له، وصار كأنه غريزة قد شب عليه فيشب عليه.
فهذا الساحر ساحر كبير قد تقدمت به السن وجرب الحياة وعرف الأشياء . فطلب من الملك أن يختار له شاباً غلاماً يعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً، فعلمه ما علمه، ولكن الله تعالي قد أراد بهذا الغلام خيراً
مر هذا الغلام يوماً من الأيام براهب، فسمع منه فأعجبه كلامه، لأم هذا الراهب- يعني العابد- عابد لله عز وجل، لا يتكلم إلا بالخير، وقد يكون راهباً عالماً لكن تغلب عليه العبادة فسمي بما يغلب عليه من الرهبانية، فصار هذا الغلام إذا خرج من أهله جلس عند الراهب فتأخر على الساحر، فجعل الساحر يضربه، لماذا تتأخر؟ فشكا الغلام إلي الراهب أمر يتخلص به، قال: إذا ذهبت إلي الساحر وخشيت أن يعاقبك فقل: عن الساحر أخرني؛ حتى تنجو من هذا ومن هذا.
وكان الراهب- والله أعلم- أمره بذلك- مع أنه كذب - لعله رأي أن المصلحة في هذا تربو على مفسدة الكذب، مع أنه يمكن أن يتأول !!
ففعل ، فصار الغلام يأتي إلي الراهب ويسمع منه، ثم يذهب إلي الساحر، فإذا أراد أن يعاقبه على تأخره قال: إن أهلي أخروني، وإذا رجع إلي أهله وتأخر عند الراهب قال: إن الساحر أخرني. فمر ذات يوم بدابة عظيمة، ولم يعين في الحديث ما هذه الدابة، قد حسبت الناس عن التجاوز، فلا يستطيعون أن يتجاوزها ، فإذا هذا الغلام أن يخابر: هل الراهب خير له أم الساحر ، فأخذ حجراً، ودعا الله سبحانه وتعالي إن كان أمر الراهب خير له أن يقتل هذا الحجر الدابة، فرمي بالحجر ، فقتل الدابة، فمشي الناس.
فعرف الغلام أن أمر الراهب خير من أمر الساحر، وهذا أمر لا شك فيه؛ لأن الساحر إما معتد ظالم، وإما كافر مشرك، فإن كان يستعين على سحره بالشياطين يتقرب إليهم ويعبدهم ويدعوهم ويستغيث بهم فهو كافر مشرك. وإن كان لا يفعل هذا لكن يعتدي على الناس بأدوية فيها سحر فهذا ظالم معتد.
أما الراهب، فإن كان يعبد الله على بصيرة فهو مهتد ، وإن كان عنده شيء من الجهل والضلال فنيته طيبه، وإن كان عمله سيئاً.
المهم أن الغلام أخبر الراهب بما جري فقال له الراهب: أنت اليوم خير مني، وذلك لأن الغلام دعا الله فاستجاب الله له.
وهذا من نعمة الله على العبد، أن الإنسان إذا شك في المر ثم طلب من الله لآية تبين له شأن هذا الأمر فبينه الله له، فإن هذا من نعمة الله عليه.
ومن ثم شرعت الاستخارة، للإنسان إذا هم بالأمر وأشكل عليه: هل في إقدامه خير أم في إحجامه خير، فإنه يستخير الله، وإذا استخار الله بصدق وإيمان فإن الله تعالي يعطيه ما يستدل به علي أن الخير في الإقدام أو إحجام. إما بشيء يلقيه في قلبه ينشرح صدره لهذا أو لهذا، وإما برؤيا يراها في المنام، وإما بمشورة أحد من الناس، وإما بغير ذلك.
وكان من كرامات هذا الغلام أنه يبرئ الأكمة والأبرص ، يعني أنه يدعو لهم فيبرأون ، وهذا من كرامات الله له.
وليس كقصة عيسي بن مريم يمسح صاحب العاهة فيبرأ، بل هذا يدعو الله فيستجيب الله تعالي دعاءه، فيبرئ بدعائه الأكمة والأبرص.
وقد اخبر الراهب هذا الغلام بأنه سيبتلي يعني سيكون له محنة واختبار، وطلب منه أن لا يخبر به إن هو ابتلي بشيء.
وكأن هذا الغلام- والله أعلم- مستجاب الدعوة، إذا دعا الله تعالي قبل منه.
وكان للملك جليس أعمي- لا يبصر- فأتي بهدايا كثيرة لهذا الغلام حينما سمع عنه ما سمع وقال: لك ما هنا أجمع- أي كله- إن أنت شفيتني، فقال، إنما يشفيك الله.
انظر إلي الإيمان ! لم يغتر بنفسه وادعي أنه هو الذي يشفي المرضي، بل قال: إنما يشفيك الله عز وجل، وهذا يشبه من بعض الوجوه ما جري لشيخ الإسلام ابن تيميه- رحمه الله عليه-، حينما جئ إليه برجل مصروع قد صرعه الجني، فقرأ عليه شيخ الإسلام ابن تيمي ولكنه لم يخرج، فجعل شيخ الإسلام يضربه على رقبته ضرباً شديداً، حتى إن يد شيخ الإسلام أوجعته من الضرب .فتكلم الجني الذي في الرجل وقال له: أخرج كرامة للشيخ، فقال له الشيخ رحمه الله: لا تخرج كرامة لي ولكن أخرج طاعة لله ولرسوله. لا يريد أن يكون له فضل ، بل الفضل لله عز وجل أولاً وآخرا. فخرج الجني. فلما خرج الجني استيقظ الرجل فقال: ما الذي جاء بي إلي حضرة الشيخ؟ لأنه حينما صرع يمكن أنه كان في بيته أو سوقه، قال: ما الذي جاء بي إلي حضرة الشيخ؟ فقالوا: سبحان الله! ألم تحس بالضرب الذي كان يضربك؟ قال: ما أحسست به ولا أوجعني.فأخبروه ، فبريء الرجل!
الشاهد أن أهل العلم والإيمان لا ينسبون نعمة الله إليهم، وإنما ينسبونها إلي موليها عز وجل وهو الله.
وقال له: (( فإن أنت آمنت دعوت الله لك)) فآمن الرجل، فدعا الغلام ربه أن يشفيه، فشفاه الله، فاصبح مبصراً.
فجاء هذا الجليس إلي الملك وجلس عنده على العادة ، فسأله الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: وأخبره بالخبر وعذبه تعذيباً شديداً، قال: من الذي علمك بهذا الشيء؟ وكان الراهب قد قال له: إنك ستبتلي، فإن ابتليت فلا تخبر عني. ولكن لعله عجز عن الصبر، فأخبر عن الراهب.
وكان هذا الملك الجبار- والعياذ بالله- لما دلوا على الراهب، جئ بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك ولكنه أبي أن يرجع عن دينه.
فأتوا بالمنشار فشذبوه من مفرق رأسه- من نصف الجسم- فبدأوا بالرأس ، ثم الرقبة، ثم الظهر حتى انقسم قسمين - شقين: سقط شق هنا وشق هنا- ولكنه لم يثنه ذلك عن دينه. أبي أن يرجع، ورضي أن يقتل هذه القتلة ولا يرجع عن دينه- ما شاء الله-!! ثم جئ بالرجل الأعمى الذي كان جليساً عند الملك وآمن بالله، وكفر بالملك ، فدعي أن يرجع عن دينه فأبي، ففعل به كما فعل بالراهب ، ولم يرده ذلك عن دينه. وهذا يدل على أن الإنسان يجب عليه أن يصبر.
ولكن هل يجب على الإنسان ان يصبر على القتل، أو يجوز أن يقول كلمة الكفر دفعا للإكراه مع طمأنينة القلب بالإيمان وإن شاء أصر وأبي ولو قتل، هذا إذا كان الأمر عائداً إلي الإنسان بنفسه يعني مثلاً قيل له: اسجد للصنم، فلم يسجد، فقتل، أو سجد دفعاً للإكراه ولم يقتل.
أما إذا كان الأمر يتعلق بالدين ، بمعني أنه لو كفر الكفر، بل يجب أن يصبر ولو قتل، كالجهاد في سبيل الله. المجاهد يقدم على القتل ولو قتل، لأنه يريد أن تكون كلمة الله هي العليا، فإذا كان إماماً للناس وأجبر على أن يقول كلمة الكفر فإنه لا يجوز أن يقول كلمة الكفر، لا سيما في زمن الفتنة، بل عليه أن يصبر ولو قتل.
ومثل ذلك ما وقع للإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله- حين امتحن المحنة العظيمة المشهورة، على أن يقول إن القرآن مخلوق وليس كلام الله، فأبي، فأوذي وعزر، حتى إنه يجر بالبغلة بالأسواق-أمام أهل السنة- يجر بالبغلة بالأسواق ويضرب بالسوط حتى يغشي عليهن ولكنه كلما أفاق قال: القرآن كلام ربي غير مخلوق.
وإنما لم يجز لنفسه ان يقول كلمة الكفر مع الإكراه، لأن الناس ينتظرون ماذا يقول الإمام أحمد، فلو قال: القرآن مخلوق، لصار كل الناس يقولون: القرآن مخلوق، وفسد الدين.
ولكنه- رضي الله عنه- جعل نفسه فداء للدين ومع هذا صبر واحتسب، وكانت العاقبة له ولله الحمد. مات الخليفة ، ومات الخليفة الثاني الذي بعده، واتي الله بخليفة صالح أكرم الإمام أحمد إكراماً عظيماً، فما مات الإمام أحمد حتى أقر الله عينه بأن يقول الحق عالياً مرتفع الصوت ، ويقول الناس الحق معه.
وخذل أعداؤه الذين كانوا يحدثون الخلفاء عليه. ولله الحمد. وهذا دليل على أن العاقبة للصابرين، وهو كذلك، والله الموفق.
لما قتل الملك الراهب، وقتل جليسه ، جئ بالغلام فطلب منه أن يرجع عن دينه إلي دين الملك، ودين الملك دين شرك؛ لأنه- والعياذ بالله - يدعو الناس إلي عبادته وتأليهه.
فأبي الغلام أن يرجع عن دينه ، فدفعه الملك إلي نفر من أصحابه0 - أي جماعة من الناس- وقال لهم: اذهبوا به إلي جبل كذا وكذا، جبل معروف عندهم شاهق رفيع، وقال لهم إذا بلغوا ذروته: فاطرحوه ، يعني علي الأرض، ليقع راس الجبل فيموت، بعد أن تعرضوا عليه ان يرجع عن دينه، فإن رجع وإلا فاطرحوه.
فلما بلغوا به قمة الجبل طلبوا منه ان يرجع عن دينه فأبي؛ لأن الإيمان قد وقر في قلبه، ولا يمكن أن يتحول أو يتزحزح، فلما هموا أن يطرحوه قال: ((( اللهم اكفنيهم بما شئت)).
دعوة مضطر مؤمن: (( اللهم اكفينهم بما شئت)) أي: بالذي تشاء، ولم يعين. فرجف الله بهم الجبل فسقطوا وهلكوا، وجاء الغلام إلي الملك فقال: ما الذي جاء بك؟ أين أصحابك؟ فقال: قد كفانيهم الله عز وجل.
ثم دفعه إلي جماعة آخرين، وأمرهم أن يركبوا البحر في قرقور- أي سفينة- فإذا بلغوا لجة البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه، فإن لم يفعل رموه في البحر. فلما توسطوا من البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه- وهو الإيمان بالله- عز وجل- فقال: لا! أبي، ثن قال: (( اللهم اكفنيهم بما شئت)) فانقلبت السفينة وغرقوا وأنجاه الله. ثم جاء إلي الملك فقال له: أين أصحابك؟ فأخبره بالخبر.
ثم قال له: إنك لست قاتلي حتى تفعل ما آمرك به! قال: وما هو؟ قال تجمع الناس في صعيد واحد، كل أهل البلد تجمعهم في مكان واحد، ثم تصلبني على جذع ، ثم تأخذ سهماً من كنانتي فتضعه في كبد القوس، ثم ترميني به وتقول: بسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني!
فجمع الملك الناس في صعيد واحد، وصلب الغلام، وأخذ سهما من كنانته فوضعها في كبد القوس، ثم رماه وقال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فأصابه السهم من صدغه، فوضع يده عليه ومات، فاصبح الناس يقولون: بسم الله رب الغلام. وآمنوا بالله وكفروا بالملك. وهذا هو الذي كان يريده هذا الغلام.
ففي هذه القطعة من الحديث دليل على مسائل:
ثانياً: قوة إيمان هذا الغلام، وأنه لم يتزحزح عن إيمانه ولم يتحول .
ثانياً: فيه آية من آيات الله، حيث أكرمه الله عز وجل بقبول دعوته، فزلزل الجبل بالقوم الذين يريدون أن يطرحوه من رأس الجبل حتى سقطوا.
ثالثاً: أن الله عز وجل يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، فإذا دعا الإنسان ربه في حال ضرورة موقناً أن الله يجيبه ، فإن الله تعالي يجيبه، حتى الكفار إذا دعوا الله في حال الضرورة أجابهم الله، مع انه يعلم انهم سيرجعون إلي الكفر، إذا غشيهم موج كالظل في البحر دعوا الله مخلصين له الدين ، فإذا نجاهم أشركوا ، فينجيهم لأنهم صدقوا في الرجوع إلي الله عند دعائهم ، وهو سبحانه يجيب المضطر ولو كان كافراً.
رابعاً: أن الإنسان يجوز أن يغرر بنفسه في مصلحة عامة للمسلمين، فإن هذا الغلام دل الملك على أمر يقتله به ويهلك به نفسه، وهو ان يأخذ سهماً من كنانته ويضعه في كبد القوس ويقول : باسم الله رب الغلام.
شرح الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله