مشاركة: منبهات للروضة
موواضحه صورها
لقيت قصه ثانيه
كان "مضر" و"إحسان" جارين، ولكن أي جارين! كان مضر مثالاً لسوء الجوار وصعوبة المعشر، وكان جميع الجيران يعرفون ذلك. وكان إحسان مثالاً لحسن الجوار ويسر المعشر. وكان جميع الجيران يعرفون ذلك أيضاً. وإذا كان مضر قد آذى هذا الجار أو ذلك من غير أن يستثني أحداً، فإنه صبَّ كل أذاه على جاره الأدنى إحسان، ويعرف الجميع ذلك أيضاً.
وفي أحد الأيام استجمعت زوجة إحسان كل جرأتها وسألته كأنها ترغم نفسها إرغاماً:
"يا زوجي العزيز، لم تدع "مضر" يؤذينا كل هذا الأذى وتسكت عليه؟ هل تراك تخافه لسبب ما؟ أرجوك خبّرني، فقد صار الجيران يتحدثون بسكوتنا عنه أكثر مما يتحدثون بإيذائه إيّانا!"
فاضت حمرة الغضب في كل وجه إحسان، وتلونت عيناه بالأسى والألم ولكنه كظم غيظه كعادته وقال:
"لا يا امرأتي العزيزة أمَّ علي، فأنت تعرفين من أنا، وتدركين جيداً مدى تقدير خيار المجتمع لي، ولو أردت أن..
فقاطعته لأنها تريده أن يقول تلك الكلمة التي في نفسها هي:
- نعم، نعم لو أردت أن تؤذيه لأذقته الويل! فأنا أعرف من أنت ومن تكون، ولكن بالله، لِمَ لا تردعه وتكف أذاه عنا؟!
تضاعف الغضب في وجه إحسان وقال بحدة ظاهرة:
"معاذ الله أن أؤذيه إلا بالحق، فلو أردت ذلك فهناك القانون الذي يأخذ حقي منه، ولو فعلت هذا لكان كل الجيران شهوداً لي عليه.
فقاطعته أمُّ علي بلهفة أشدّ:
"ولكن لمَ لا تفعل هذا يا عزيزي وتكف أذاه عنا؟!"
قال إحسان: "ولكنني لن أفعل ذلك أبداً؟"
فلم تطق زوجته صبراً فقالت: ولمَ لا تفعل بالله عليك؟
فقال إحسان والبشر يتلألأ في وجهه هذه المرة:
"لا أفعل لأنني أريد أن أُرضي الله سبحانه قبل أن أُرضي نفسي!"
فتساءلت مستغربة: "كأنني لا أفهم ما تعنيه يا أبا علي؟!"
فقال: "ألا تحبين لي أن أكون من (الكاظمين الغيظ) الذين ذكرهم الله سبحانه في كتابه العزيز؟
وفي لحظة تحولت الزوجة من الغضب إلى الرضى وقالت:
"ونِعْمَ ما اخترتَ يا أبا علي، والآن فقط علمت سر سكوتك عنه".
ومرت الأيام وذات غروب انطلق صياح وذعر مفاجئ في الزقاق فخرج الجميع يستطلعون الأمر ومنهم أبو علي وزوجته وما إن نظروا حتى رأوا ابنتهم الصغيرة "غيداء" ملقاة على الأرض والدماء تسيل من جسدها حتى علا الصياح والدعاء بالويل والثبور، واتجهت أصابع الجيران نحو مضر وهم يقولون:
"إنه مضر.. إنه مضر، لقد دهس غيداء بسيارته، لقد بلغ به الحقد كل مبلغ".
وكاد يغمى على أمّ علي من الصدمة، فأمرها أبو علي أن تتمالك نفسها وذهب ثم حمل ابنته وأسرع بها نحو المستشفى بسيارته، وخلفه كانت سيارة الشرطة تحمل الجاني "مضر"
ودار الحديث بين الجيران، فأجمعوا على أن مضر سيلقى هذه المرة شر الجزاء من جاره إحسان, ووضع مضر في التوقيف ولم يكن أبو علي يعلم بذلك.
وفي صباح اليوم التالي عاد أبو علي إلى البيت بعد أن اطمأنّ على حياة ابنته وصحتها ففي المستشفى أكدوا له أنها ستشفى في أيام قليلة، فاستقبله الجيران بسيول من أسئلة الفضول:
- ها يا أبا علي أهي بخير؟
فقال: إنها بخير والحمد لله
- لقد أوقفوا مضر في مركز الشرطة منذ أمس!
فذهل أبو علي وقال كأنه يستنكر ما سمع:
"أوقفوا مضر؟ وكيف؟.."
فصمت الجميع لغرابة سؤاله ولكن أحدهم كسر الصمت بقوله:
- إنه يستحق أكثر من ذلك، ذلك الجار السيء!
وفي الحال ركب أبو علي سيارته وانطلق بها، وبعد ساعة عاد وهو يصحب مضر معه في سيارته، ثم أنزله أمام بيته ودخلا معاً إلى بيت مضر!
لم يصدق الجيران ما رأوه فأقبلت أمُّ علي على زوجها لهفى:
- والآن هل هذا وقت كظم الغيظ يا أبا علي، وابنتك في المستشفى! ماذا ستقول للناس؟!
تهلل وجه إحسان بالبشر ونظر إلى الجميع وقال:
- لقد أكملت الآية بهذا يا عزيزتي، أما تريدين لي أن أكون من الذين قال الله عنهم (والعافين عن الناس)؟
فقالت أم علي والسرور بادٍ عليها:
- (والله يحب المحسنين) هذه المرة سأكون معك..
ثم التفتت إلى الجيران الذين عقدت الدهشة ألسنتهم وقالت:
- اشهدوا أيها الناس أننا عفونا عن جارنا العزيز مضر سامحه الله.
ومرت الأيام والشهور، فصار الناس يتحدثون عن مضر الجار الطيب الذي يسعى بالخير للجميع.
